اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

أنطونيوس بو ملحم شاعراً


توزّعَ الشعراء على مدى التاريخ، الاقامةَ في احدى مرتبتين. مرتبة الذين اشارت اليهم «سورة الشعراء»، واصفةً ايّاهم بأنّهم الذين « يتبعهم الغاوون، وأنّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنّهم يقولون ما لا يفعلون»، ومرتبة الذين يرقون بالحياة، اذا ما ارتقوا منبراً او اعتلوا منصّةً، ويُشرِّفون من أنّى أشرفوا، كلّ الميادين وكلّ الرحاب. وما كنتُ لأتحدّث عن انطونيوس بو ملحم شاعراً، طوى دفاتره ولملم اوراقه ورحل قبل اسبوعين لولا معرفتي العميقةُ به، والتي تعود الى اكثر من ستين سنةً خلَتْ، يوم أسمعني قصيدة له عن قبر أمّه التي رحلت يوم مولده. يومذاك استشعرت فيه فجراً يُبشِّرُ بظهيرةٍ ساطعة. وما خاب من بعد استشعار بشاعريّته، ولا خاب به ظنّ اليوم، ونحن على مبعدة ايام من ذكراه الأربعين. اتوجّه لعارفيه وللذين لم يعرفوه من خارج المدى الشمالي بافادتي شاهداً، وهو من رفاق الطريق العتاق بأنّه شاعرٌ، لا أقول نسيج وحدِه، بل شاعرٌ حائكٌ حاذق، نسج للشعر حلّةً بهيّةً ما نسج من قبلُ مثلَها سواه.

من هنا، فما هو بشاعرٍ، ولو احسن القريضَ من لم يكن في شعره خصوصيّة هي في الشعر هُويّة. وعندي انا الشاهد العيانش، انّه ما كان لأنطونيوس بو ملحم ان يُشعَّ ابداعاً لو لم يتصّف في شعره، كما في سائر حقول الحياة بكونه صادقاً اذا صادقَ وفيّاً، ولا سيما اذا عاهد أو تعهّد، ومتألّقاً بالحبّ وجدانُه اذا أحبّ . وكان على الاخصّ، دافىء اللسان والجنان، اذا ما فرضت ظروف المكان والزمان بعداً أو تباعدا.ً

اليوم، وبعدما انتقل انطونيوس الى ذمّة الذكريات، أراه يحضر من هناك، من وراء اكثر من ستين عاماً، فأراني وايّاه صبيين يافعين، يكبر احدهما الآخر بقليل، عاشقَينِ يحلمانِ بمعانقة الكلمة ادباً، ينطق بالروح التي كان لها مجدُ البدء . بقيت، رغم التنائي، اتابعه ولو من بعيد، فكان يدهشني منه ثباتُه على تبادل ما يشبه العشقَ والوفاء مع الكلمة. لقد احبّها صورةً لاعماقه طاهرةً نقيّة من أي عيب، فانجذبت اليه حاضنها بحنانٍ وحنين . لقد البسها في شعره العاميّ ثوباً شفيفاً رهيفاً، كأنّه حيك من نسمات عابرات في صنوبر عشيقته الدائمة ضيعته عيمار. أمّا في فُصحاه فقصائده فرائدُه خليليّة فراهيديّة، صاغتها يراعةُ خِلٍّ، وفيٍّ للقواعد والاصول.

قُصارايَ في ذكراه الأربعين أنّه من مصافّ أولئك الذين قال فيهم كبيرُنا سعيد تقيّ الدين: «الكبار لا ينتهون بمأتم». انطونيوس بو ملحم، لروحك تحيّة كتلك التي نرفعها على رجاء قيامة الامّة من قبر التاريخ .

الأكثر قراءة

هكذا نفّذت عمليّة اصفهان العسكريّة – الأمنيّة المركبة