اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

هؤلاء الذين لم يرفعوا قبضاتهم يوماً في وجه القهر، ولا في وجه مصاصي الدماء. هؤلاء الذين لم يهزهم أنين الفلسطينيين في قبورهم أو في زنزاناتهم، صعقهم منظر امرأة بلباس البحر!

اذا تركوا الآن (على هواهم) يرشقون النساء بالحجارة، غداً يطاردون بالسواطير الفتيات وهنّ في الطريق الى المدرسة. متى البرقع والملابس الأفغانية ؟

صيدا ببهائها التاريخي وبرهافة أهلها، ترفض أن تكون قندهار. ولكن هكذا يبدأون بالحديث الببغائي عن التقاليد وعن القيم، ثم عن الشواطئ المقفلة، وصولاً الى المدن المقفلة، وبعدها الى الدول المقفلة.

اذا نجحوا في عاصمة الجنوب، وقد أثار ذهولنا تجاوب بعض المسؤولين مع ما ذهبوا اليه، قد نراهم يزحفون الى صور وبيروت وجبيل. أناس لا حدود لتكشيرتهم، ولا لدعواتهم القاتلة لجوهر الوجود اللبناني بالتفاعل بين الثقافات وبين الأديان، ما دمنا في زمن الهوية المركبة، والمجتمع المركب، والدولة المركبة...

صيدا على شاكلة لبنان. مسيحيون ومسلمون جنباً الى جنب. المدينة التي استضافت على مدى قرون عائلات يهودية جمة (أرّخ لها الدكتور طالب قره أحمد)، ودون أن يشعر أي يهودي بأنه «الآخر»... شيئولا كوهين، بالتواطؤ مع شخصيات لبنانية «رفيعة» نقلتهم الى الجليل.

اذا عدنا الى الجذور (الايديولوجية) للأصولية، فهي في نصوص التوراة التي كرست مبدأ رفض (واجتثاث) الآخر. من هنا نشأت ثقافة الغيتو، وهو ما يسعى اليه نجوم الائتلاف الحالي في «اسرائيل» : دولة يهودية لا أثر فيها للآخر...

هذا ما حاول تنظيم «داعش» استنساخه، وما تفعله حركة «طالبان». حتى تمثال بوذا الذي دعا الى الاندماج الروحي بالآخر، دمروه بالمطارق. لو كان حياً لقطّعوه ارباً ارباً، وعلقوا رأسه على بوابة تورا بورا. أحد أتباع الشيخ (الجليل) في صيدا وصف المرأة بـ «الشلعوطة». هكذا في أفغانستان، النساء ـ الجواري !

مثلما لكل مواطن لبناني معتقداته، له رؤيته الثقافية وعاداته. من أعطى ذلك الشيخ أو سواه صلاحية فرض معتقداته أو عاداته الشخصية على الآخرين ؟ ولقد استغربنا حديث بعض المسؤولين (الذين تعنيهم أوراق الاقتراع ولا شيء آخر)، عن عادات المدن.

اذا كان هذا صحيحاً، فلماذا الوضع مختلف في الشطر الغربي من بيروت، وحيث تتقارب العادات والتقاليد، دون أي اعتراض على المنتجعات البحرية، ودون أن نرى أحداً من رجال الدين أو من رجال التراث يتعرض لأي كان..

أولئك الذين فعلوا ما فعلوه في صيدا، انما يعطون لدعاة الكانتونات، أي الغيتوات، الذريعة للمضي في دعوتهم الى تقطيع أوصال لبنان، وقيام دولة هجينة توضع فيها خطوط التماس، وهي خطوط الدم بين السني والشيعي، وبين الماروني والدرزي، بل بين الجميع والجميع، ليتسنى للـ «خامات»، ولطالما أزعجهم النموذج اللبناني، أن يهيلوا التراب علينا، هذا حلم الجنرالات أيضاً..

لسنا في نظام ثيوقراطي، أو في دولة البعد الواحد، لكي يفرض على الرعايا زياً معيناً أو عادات يراها آخرون، شركاء لنا مثالاً للهلهلة أو للتحجر، في ظل التحولات الكبرى والثقافات المشرعة على بعضها البعض، الا اذا كنا نأخذ بنظرية صمويل هانتنغتون حول «صدام الحضارات»، والمقصود «صدام الديانات».

بطبيعة الحال، لا بد للنصوص الدينية أن تتفاعل مع ديناميات الأزمنة. لكن الذي يحدث أن الأيدي الغليظة والأدمغة الغليظة، أغلقت في وجهنا كل أبواب الحداثة لنبقى هكذا، في تسكعنا على أرصفة الحياة...

لدعاة التقاليد والعادات، نعيدهم الى التراث العربي الذي عرف ذروة تألقه بالتفاعل مع ثقافات الآخرين، من أريسطو الى كونفوشيوس، ومن بابل الى وادي فرغانة.

لبنان بلد التفاعل. هذا ما جعله مشعاً في أرجاء المنطقة، قبل أن يجعل منه غربان الطوائف فردوساً للفساد. ما شاهدناه في صيدا لم نعهده سوى في عصور الانحطاط، ولن نعود بلغة القوقعة الى عصور الانحطاط.