اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

ادى التكاثف المتاصعد للمبادلات المادية وغير المادية والاليات الادماجية المواكبة لها، كما بات معروفا، الى تقلص الزمان والمكان على الكرة الارضية في اطار ما صار يعرف بالعولمة. غير ان هذه العولمة احدثت انقساما ايديولجيا متناميا حيالها بين مؤيد ومعارض. ذلك ان الانشطة الاقتصادية.. التكنولوجية والثقافية... التي انتجت العولمة افضت في ظل مبادئ السوق الرأسمالي المعمول به في العالم الى نتائج باهرة في الميادين العلمية التكنولوجية... الطبية... والاقتصادية... لكنها افضت في نفس الوقت على مستوى العالم لا الى فجوة بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب وحسب وانما وبصورة اشد الى مظالم جغرافية تتمثل بتفاوتات اجتماعية اقتصادية حادة بين الامكنة المأهولة من مدن واحياء... وأرياف.. كما بين أقاليم وبلدان.. بما هي مجالات جغرافية لمختلف انشطة الجماعات البشرية المعنية بها. إزاء ذلك كان لا بد من ان تثير مغريات التقدم والوفرة من جهة وما يقابلهما من ظلم اجتماعي وجهوي جغرافي من جهة ثانية بلبلة في الاراء والأفكار والمواقف ازاء العولمة ومٱلاتها، وقد تعززت هذه البلبلة مؤخرا مع الكشف عن الدور الخفي أو شبه الخفي لفقراء عالم الجنوب في تنشيط ٱليات العولمة الادماجية بعد ان كان هذا الدور وقفا على مؤسسات وفاعليات عالم الشمال الغني.

بين المع والضد

يرى تيار النيوليبرالية الذي انطلق من الولايات المتحدة خلال الربع الاخير من القرن العشرين أن العولمة الراسمالية تشكل قاطرة التقدم الضروري الذي يراكم الثروة ويرفع معدلات النمو الاقتصادي كما معدلات التنمية البشرية على ما تظهره معظم بيانات عالم الشمال الغني، الأمر الذي لا بد وان ينعكس أيجابا على الشرائح الفقيرة إذا ما أقدمت على الإنخراط في اليات العولمة بما يتيح لعناصر هذه الشرائح فرص تحقيق احلامهم في الكفاية والرفاه ذلك أنه دون زيادة الثروة والوفرة التي تؤمنها العولمة في رأي مريديها لا يمكن القضاء على الفقر في العالم وعليه فهي اي العولمة الراسمالية تشكل الامل الوحيد في ارتقاء الفئات الاجتماعية المسحوقة للإلتحاق بالطبقات الوسطى.

الى جانب النيوليبراليين ترى مجموعات من اليسار واليمين التقليديين في العالم المتقدم لا سيما الاوروبي منه أن العولمة مسار تاريخي مستقبلي لا رجعة عنه انما الانخراط فيه ينبغي أن يجري عبر إنجاح التكتلات الاقليمية الإقتصادية القارية ( الاتحاد الاوروبي.. اسيان... مركوسور.. ) بغية تأمين التوازن الدولي ازاء الهيمنة الاميركية الاقتصادية والمالية وضغوطها المتصاعدة في مختلف الميادين، غير ان بعض نخب اليسار التقليدي تدفع باتجاه طرح اقتراح إعتماد سياسة ضريبية تصاعدية موحدة ضمن هذه التكتلات الاقليمية والعض الٱخر يشدد في مقاربته الاقتصادية التنموية في إطار العولمة على ضرورة تعيين الحاجات وربطها بما يتوفر من موارد.

مقابل مؤيدي العولمة ينبري تيار سياسي متعدد المكونات يضم نيو ماركسيين وانارشيين ومتطرفين للعمل الدؤوب على مناوأة العولمة الرأسمالية التي تضطلع بها الامبريالية الاميركية. يشارك بعض الناشطين منهم في مختلف التحركات المطلبية المعيشية التي تبادر إليها الفئات الشعبية لاسيما في مدن عالم الشمال المتقدم وهم لا يتوانون عن استخدام العنف الدموي ذو المنحى الثوري في مواجهة القوى الامنية أثناء هذه التحركات. والواقع ان هذا اليسار المتجدد او المتطرف يبدو وكأنه يعاني من مرارة ما ٱل اليه النظام العالمي من إنتصار عولمة الراسمال على الاممية الاشتراكية والتي ليست سوى عولمة عمالية مناقضة بالمطلق للعولمة الراهنة، وفد وجد هذا اليسار ضالته في تحركات عديذة سارع الى دعمها بشتى الوسائل من اهمها على سبيل المثال تظاهرات ما عرف بالسترات الصفراء التي اجتاحت المدن الفرنسية في السنين الاخيرة احتجاجا على المصاعب المعيشية وقد انتقلت عدواها الى مدن اوروبية اخرى، وأيضا في ما جرى عام ٢٠١١ عندما خرجت جموع بشرية عملاقة للتعبير عن غضبها اعقاب الانعكاسات الاقتصادية الاجتماعية للازمات المالية العالمية التي بدأت عام ٨ ٢٠٠، حيث ادى هذا الغضب الى سلسلة من التظاهرات العنيفة في العديد من دول العالم لا سيما تلك التظاهرات التي انتهت باحتلال شارع وول ستريت في نيويورك بما يرمز اليه من كونه القلب النابض للرأسمالية العالمية.

إلى جانب هذا اليسار وإنما إنطلاقا من مبادئ مغايرة ومناقضة له ينشط تيار جديد مبني على اممية من نوع ٱخر هي الاممية الاسلامية اذا جاز التعبير وهو يضم اتجاهات متعددة ومتناقضة فيما بينها الا انها تجتمع على مواجهة العولمة بشتى الوسائل بما فيها العنفية منها.

الى ذلك ينمو تيار معارض للعولمة من قبل فئات اجتماعية واسعة ووازنة في دول الشمال الغنية لا سيما في الولايات المتحدة واوروبا الغربية. هذه الفئات تتناول العولمة من الوجهتين الاقتصادية والثقافية حيث أنها تجد في سلوك الرأسمالية المعولمة ما يلحق الأذى المستمر بمصالحها الحيوية لا سيما عندما تقوم بنقل مؤسساتها الانتاجية الى الجنوب بحثا عن التقليل من كلفة تفعيلها وكذلك عندما تستقدم منه اليد العاملة المتدنية الأجر والمنافسة لليد العاملة المحلية، يضاف الى ذلك ما تسببت به العولمة من تلك الهجرة الواسعة من الجنوب الى الشمال والتي أفضت الى تكدس مجموعات من المحرومين في احياء متهالكة مستثيرة بذلك ردات فعل معادية للاجانب يواكبها صعود موجة من القومية الإنطوائية اذا جاز التعبير تتسم بنوع من العنصرية يصفها خصومها باليمين المتطرف او بالشعبوية. هذا ويقود صعود هذه الموجة الى تصادم ثقاقي بين المحليين والوافدين من الجنوب تكاد لا تخلو منه دولة من دول الشمال.

في مختلف الاحوال فإذا كان مريدو العولمة يجدون فيها السبيل الوحيد للقضاء على الفقر فإن معارضيها بمختلف توجهاتهم يحملونها مسؤولية تعميق الفجوة بين الرفاه والحرمان على الكرة الأرضية.

الفقر ومجاله الجغرافي

يتمثل خط الفقر بالنسبة لدخل الفرد الواحد بحوالى دولارين في اليوم وما دون ووفق هذا المعيار فإن عدد الفقراء في العالم يقارب ثلاثة ارباع المليار نسمة بينما يبقى عدد الاغنياء من اصحاب المليارات حوالى ٢٥٠٠ شخص مع الاشارة الى ان الشرائح الواقعة بين المجموعتين على تفاوت تراتبيتها تضم كتلا بشرية وازنة من المعوزين او المحرومين القريبين الى هذا الحد اوذاك من خط الفقر يضاف اليه كتلا بشرية اخرى من محدوي الدخل معظمهم يتوزع على اسيا افريقيا واميركا الجنوبية، تبدو مجالاتها الجغرافية وكأنها تقع على هامش مختلف الانشطة الإدماجية العالمية اي انها تبدو وكأنها لا تشارك في هذه الانشطة الا من حيث كونها مجالات تتلقى نتائج ما تقرره عواصم عالم الشمال ومراكز تكدس الرأسمال في بورصات نيويورك... لندن... وفرانكفورت... وسائر المدن الاقطاب من عالم الشمال وحيث تتمركز المؤسسات المالية الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات... صاحبة القول الفصل في تسيير شؤون العولمة. لذلك لم يتبدى من بلدان عالم الجنوب حتى الربع الاخير من القرن العشرون سوى الوجه السلبي غير الفعال لجهة مشاركتها فى الاليات الإدماجية على مستوى العالم. والحال فهي لم تبدأ تواصلها الحديث مع الخارج الا من حيث كونها ارضا للاستعمار لتتحول فيما بعد الى اسواق عملاقة تستهلك ما تنتجه الدول الصناعية الغنية. لكن الرأسمال في هذه الدول الباحث دوما عن الربح والتوسع الجغرافي والتجدد العلمي والتكنولوجي لم يكن ليكتفي بالوظيفة الاستهلاكية لبلدان الجنوب فتقدم للتعامل معها بوصفها أيضا متنفسا متاحا له لتوظيف الفائض من الرأسمال وبالتالي مخرجا للازمات التي يشهدها النظام الراسمالي من وقت الى اخر. وبالفعل قام الراسمال في البلدان الغنية بنقل بعض من وسائل انتاجه لا سيما الصناعية على ما أشرنا إليه سابقا الى العديد من البلدان االأفريسية (افريقيا اسيا) والاميركية الجنوبية مستفيدا من تدني الكلفة والاجور وانشأ بنى تحتية ملائمة لها لتتحول مدن عديدة من عالم الجنوب بدورها الى مراكز استقطاب للرأسمال ومنصة للأنشطة التكنولوجية الرفيعة والرقمية وللمعلوماتية كما لوسائل التواصل الاجتماعي. إلا أنه لم يطل الامر حتى تمكنت نخب عديدة في هذه المدن خلال الربع الاخير من القرن الماضي من استيعاب المستجدات التكنولوجية واستخدامها في مختلف الميادين الاقتصادية كما تمكنت أيضا من مراكمة رأسمال محلي دولي جرى توظيفه في صناعات توصلت بما تنتجه من سلع وبضائع من غزو اسواق عالم الشمال نظرا لتدني اسعارها مستفيدة من تحرير التجارة العالمية الذي فرضته الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها في اوروبا الغربية والذي قضى بتخفيض الرسوم الجمركية على مختلف السلع والخدمات والدفع بإتجاه تنشيط حركة النقل برا وبحرا وجوا وتكثيف المبادلات في مختلف الاتجاهات.

تبدلت العلاقة إذن بين الشمال والجنوب ولم يعد الجنوب مجالا سلبيا او غير فاعل يتلقى نتائج ما تمليه عليه مراكز القرارالاقثصادية والمالية في الولايات المتحدة وفي غيرها من دول الشمال لكن الاهم من ذلك هو المشهد الجديد الذي راح يتكون منذ العقد الاول من القرن الحالي عندما تصاعد حجم المبادلات على مختلف انواعها ضمن عالم الجنوب وتنامت قدرات استقطاب عددا من مدنه الى الدرجة التي اتاحت لبعضها مثل شنغهاي في الصين ومومباي في الهند من لعب ادوار ادماجية في اطار العولمة تكاد تنافس المدن الاوروبية الغربية الكبرى. وهكذا أدت المبادلات الجنو بية الجنوبية المكثفة برا وبحرا وجوا الى تشكل مجال جغرافي افريسي (افريقي اسيوي) بنفس الاليات الادماجية المعمول بها في عالم الشمال وانما على مستوى ادنى بحيث يبدو تشكله خجولا او خفيا مقارنة بما يجري في عالم الشمال بين اميركا الشمالية اوروبا واليا بان، يمتد هذا المجال الجنوبي المستجد من كوتونو في بينان على المحيط الاطلسي في الغرب الافريقي الى شنغهاي في الصين على المحيط الهادي في الشرق الاسيوي مرورا بالجزائر... القاهرة... دبي... حيث تحولت هذه المدن وغيرها على ما بينها من تفاوت في القدرات والإمكانيات الى مراكز اقتصادية معولمة يؤمها رجال اعمال من مختلف الجنسيات يبرمون فيها صفقات ذات ابعاد دولية ثم إنها تشهد توسعا عمرانيا ملحوظا لا سيما وقد باتت تستقطب مهاجرين عمال وكوادر وتقنيين متعددي المهن والاختصاصاث يصلون إليها مع عائلاتهم، معظهمم من بلدان الجنوب بما يؤدي الى نوع من مزيج بشري اجتماعي ثقافي غير مسبوق.

في هذا الاطار يمكننا القول ان فقراء الجنوب تمكنوا بدورهم من انتاج مجال جغرافي ما يزال خفيا او شبه خفي، بمعنى آخر ما يزال على هذه الدرجة او تلك من الخفر إذا جاز التعبير لكنه يواصل التشبيك المكثف لمختلف عناصره في داخله ومع سائر العالم في نفس الوقت وهو يساهم بما له من ديناميات اقتصادية وسياسية في إجراء تحولات عميقة على المشهد الدولي ليس اقلها ما تبين من قدراته على تشكيل الاسس التي ينبني عليها تكتل البريكس الهادف الى احلال التوازن الجيوبوليتيكي مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية وإن يكن ذلك دونه تحديات في غاية الخطورة.

الأكثر قراءة

الورقة الفرنسيّة المعدّلة عند بري... وحزب الله يُحدّد ملامح «اليوم التالي» التعديلات تتضمّن إعادة «انتشار» لا انسحاب للمقاومة... ماذا عن ملف الغاز ؟ توصية المعهد القومي «الإسرائيلي»: لا تغامروا بحرب شاملة في الشمال !