اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

فتحت زيارة الرئيس بشار الأسد الى الصين، والحفاوة التي استقبل فيها، ابتداء من إرسال الرئيس الصيني لطائرته الخاصة لتقل الرئيس الأسد والوفد المرافق الى الصين، شهية المحللين الدوليين على تأثير المتغيّرات الدولية الحاصلة على توقيت هذه الزيارة، التي كان يمكن أن تحصل منذ سنة أو عدة سنوات.

وكون موضوع خطوط التجارة الدولية هي من المسائل الاستراتيجية التي يتم التنافس عليها في المرحلة القادمة، وخاصة بعد أن أُعلن في قمة العشرين مؤخراً عن إنشاء ممر جديد من الهند الى أوروبا يمر من المحيط الهندي عبر الخليج وفلسطين المحتلة الى البحر المتوسط فأوروبا، كثرت التساؤلات حول ما إذا كان لهذه الزيارة أي أهداف تتعلق بهذه المسائل الاستراتيجية، إضافة الى مسألة العلاقات الثنائية والمشاركة في إعادة الاعمار والتعافي.

وقد كتبنا الكثير من المقالات عن التطورات الجيوستراتيجية في آسيا، وتحديداً عن المشروع الصيني حول طريق وحزام الحرير، وحول المشروع الهندي الذي سمي وقتذاك بكوريدور جنوب شمال، يبدأ من مومباي ثم الى مرفأ شاهبار، الذي أنشأته الهند باستثمارات كبيرة في جنوب شرق إيران، ومنها بالسكك الحديدية والمواصلات البرية الى روسيا عبر أذربيجان ودول آسيا الوسطى ومن روسيا الى أوروبا.

في المقابل يمتد المشروع الصيني من غرب الصين عبر دول وسط آسيا الى روسيا من جهة، والى ايران وتركيا من جهة أخرى، ليصل الى أوروبا. ويترافق مع خط بحري، يتجاوز بحر الصين الجنوبي التي تسيطر عليه اميركا، وبتجاوز الهند، ويبدأ من مرفأ غوادار في باكستان، بعد أن تم إنشاء هذا المرفأ باستثمارات صينية ضخمة، ووصله بخط للسكك الحديدية مع شبكة القطارات في غرب الصين، فأصبحت الحاويات والبضائع تأتي من شرق الصين برّاً الى غوادار، بكلفة معقولة ووقت أقصر، ومن هناك تتابع مسارها البحري عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر وقناة السويس والبحر المتوسط، الى غرب أوروبا. أو تذهب من المحيط الهندي جنوباً الى رأس الرجاء الصالح في جنوب افريقيا ومنه عبر المحيط الأطلسي الى أوروبا.

وبالمقابل، نشأت مشاريع إقليمية موازية، حيث سعت أميركا الى تشجيع مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن و"اسرئيل" والسودان لاحقا، على إنشاء ناتو عربي، بمواجهة إيران، التي يمتد نفوذها غرباً الى العراق والشام ولبنان، إضافة الى اليمن. وقلنا أن أحد أهم أهداف حرب اليمن هو إزالة المخلب الحوثي القريب من ايران، من مدخل البحر الأحمر الجنوبي، حتى لا تتكرر تجربة مضيق هرمز في الخليج. وكانت الخطط تهدف الى تنمية الشاطئ الغربي للملكة العربية السعودية، والبحر الأحمر بشكل عام، لتستمر طريق قناة السويس قادرة على جذب كمية كافية من التجارة الدولية بين شرق آسيا وغرب أوروبا، والتي أصبحت تنافسها عدة خطوط برية بسبب المشاريع الصينية والهندية، وبسبب نشوء خطوط بحرية أخرى، واحدة تدور حول افريقيا، وأخرى انشأتها روسيا في القطب الشمالي، حيث طورت تقنيات تستطيع تأمين الملاحة البحرية وسط البحار المتجمدة.

وكان المشروعان الصيني والهندي يمرّان في ايران، ويعتمدان بشكل رئيسي على الوصول الى أوروبا من خلال روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء. إضافة الى الدخول الى جنوب شرق أوروبا من خلال ايران ثم تركيا عبر أذربيجان، والتي كان إقليم كاراباخ يشكل عائقاً لربط أذربيجان بتركيا.

فماذا كانت الردود الغربية على هذه المشاريع؟

أولا كانت اميركا تعتبر أن الصين هي المنافس الأول لها عالمياً، فيما انتهجت الهند سياسة متوازنة تقوم على التحالف مع اميركا وتعزيز العلاقة بنفس الوقت مع ايران وروسيا، فيما العلاقة مع الصين يسودها الحذر والمنافسة الاقتصادية والديموغرافية.

الضربة الأساسية الأميركية لهذين المشروعين، الذين يعززان دور روسيا وايران، كانت الحرب الاوكرانية. فمن جهة، انشغلت روسيا بالحرب وتكاليفها وتأثيراتها، وانقطعت علاقتها بأوروبا، وفي الوقت نفسه ضرب مصدر دخل أساسي لروسيا من تصدير الغاز الى أوروبا. وهذا عرقل الخطوط الصينية والهندية التي تمر في روسيا ومنها الى أوروبا.

وهذه الحرب، جعلت تركيا تعزز دورها في تركيز مشروع طريق الحرير على الخط البري الذي يمر بإيران وأذربيجان وتركيا الى أوروبا، بعد تعطل أو تأثر الخط الشمالية الذي كان يمر من غرب الصين الى دول آسيا الوسطى وكازاخستان الى روسيا ومنها الى أوروبا. فعمدت الى دعم أذربيجان على حرب إقليم كارابخ من بضع سنوات، لتأمين طريق ضيق يصل أذربيجان الى تركيا. ومؤخراً وبـ "قبة باط" روسية، الى احتلال ناغورني كاراباخ وضمها الى أذربيجان، في ظل صمت دولي مريب. وهذا أمّن حلاً جزئياً لطريق الحرير. ولكنه أبقى الكوريدور الهندي الإيراني الروسي مضروباً بسبب العلاقات المتوترة بين روسيا واروبا، نتيجة حرب أوكرانيا.

ترافق ذلك، مع بعض المشكلات المحلية في الشرق الأوسط للأميركيين. فقد أدت نتائج الحرب السورية، وتنامي النفوذ الإيراني في المشرق العربي، ومطالبته بخروج الأميركيين من المنطقة، الى محاولة التركيز على الناتو العربي. لكن المشكلات التي نشأت مع السعودية، خاصة بعد قصة الخاشقجي والإهانات التي وجهتها السياسة الأميركية للملكة وحلفائها العرب، وترنح ما سمي بالربيع العربي، الى دفع المملكة بقيادة الملك سلمان وولي العهد، الى انتهاج سياسة متوازنة تشبه السياسة الهندية، من خلال مواقفها في الأوبك بلاس، وعدم رضوخها للمطالب الأميركية بزيادة انتاج النفط لتخفيض الأسعار، إضافة الى الانفتاح على روسيا والصين، الى قلق أميركي على ما تبقى لها من نفوذ في الخليج وحوض البحر الأحمر.

وكان نتنياهو، بعد انفجار بيروت، وتعثر حرب اليمن، قد طرح بدائل برية، لربط مرفأ حيفا بشبكة سكك حديدية متطورة، عبر الأردن والمملكة والامارات، مع مرافئ على بحر العرب، مثل عدن وصلالة وخورفقان، خارج التأثير الإيراني في اليمن والحديدة، وفي مضيق هرمز. وهذا يتطلب تطبيعا مع المملكة، بعد أن تم التطبيع مع الامارات، وفي ظل اتفاقيات السلام مع كل من مصر والأردن، وبعد الانقلاب في السودان.

لكن الموقف السعودي جاء ليعرقل هذه المساعي، الى أن وصلت الهند الى قناعة، بأن الكوريدور الهندي الإيراني الروسي تعطل بسبب الحرب الأوكرانية، وعليها إيجاد خيارات بديلة.

من هنا جاء الأميركي والإسرائيلي في قمة العشرين الأخيرة، بطرح خط جديد يربط الهند بغرب أوروبا، يبدأ في المحيط الهندي بحرا، ثم الإمارات والمملكة العربية السعودية والأردن وفلسطين المحتلة براً، ثم من مرفأ حيفا الى المتوسط فأوروبا بحراً. وسمي "الكوريدور الاقتصادي الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي" India-Middle East-Europe Economic Corridor، واعتبر مشروعاً استراتيجياً منافساً لمشروع الصين المسمى "الطريق والحزام" One Road One Belt.

وهذا الخط، يستلزم حداً أدنى من التطبيع الاقتصادي مع المملكة، مع أن البضائع والحاويات يمكن ان تمر من الامارات عبر المملكة الى الأردن، ومن هناك يتولى الأردن تمريرها عبر "إسرائيل" ومرفأ حيفا. وهو يتطابق مع فكرة الناتو العربي الذي حاولت اميركا إنشاءه بين دول مجلس التعاون، والأردن ومصر والسودان، و "إسرائيل". وهو ما سوقه نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر.

وكان الموقف الصيني، طوال العقد الماضي، وخلال الحرب في الشام، متحفظاً حول ما إذا كان طريق الحرير يمر عبر العراق وسورية. وقد قمنا من خلال عدة جولات للتفاوض، من خلال وزارة المصالحة الوطنية في الشام، على مدة سنوات طويلة، نحاول أخذ تعهد من الصين، بأن يكون لطريق الحرير تفرع يمر عبر العراق والشام، دون جدوى. كان دائماً الموقف الصيني ضبابياً. الى أن تمت منذ سنتين زيارة وزير الخارجية الصيني الى دمشق، حيث أعلن لأول مرة أن أحد تفرعات طريق الحرير ستمر عبر سورية الى البحر المتوسط، ومنه الى أوروبا.

اليوم، وبعد الإعلان عن الخط الهندي الجديد، وفي ظل تعطل الخط الشمالي لطريق الحرير عبر روسيا الى أوروبا، وحتى لا يبقى الخط عرضة لتقلبات اردوغان، ومروره حصراً في ايران وتركيا الى جنوب شرق أوروبا، أصبح ضرورياً للصين، أن تعمل على اعتماد خط بري يمر عبر غرب ايران الى العراق والشام الى البحر المتوسط، ليس كتفريعة صغيرة لارضاء الحلفاء في الشام، بل كخيار رئيسي بديل. خاصة بعد أن عطل الضغط الأميركي اتفاقاً صينياً – "اسرائيلياً" لإدارة مرفأ حيفا من قبل شركات صينية. ولذلك يجب النظر الى التمركز الأميركي في التنف على الحدود السورية العراقية، وفي الشمال الشرقي في مناطق الأكراد، ومحاولتهم اقفال الحدود العراقية السورية، ليس فقط لمنع تدفق الأسلحة الى حزب الله من إيران كما يجمع المحللون المحليون، بل أيضاً والأهم، لعرقلة قيام خط جديد لطريق الحرير الصيني عبر ايران والعراق وسورية.

من هنا تكتسب زيارة الرئيس الأسد أهمية استراتيجية في هذا المجال. حيث ان التطورات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، والموقع الجيوستراتيجي للشام، أعادت أهمية اعتماد الشام كبوابة غربية لآسيا على المتوسط وأوروبا. وقد تلقف الرئيس الأسد هذه اللحظة، وبدأ محادثات جدية مع الصين، لا تقتصر على طريق الحرير، بل تشمل أيضاً مسائل لها علاقة بالمستقبل السياسي في الشام، ومشاريع إعادة الإعمار والنهوض، خاصة في ظل الفائض المالي الكبير الذي تتمتع به الصين، والقدرات الكبيرة التي يمكن أن تأتي بها من خلال منظمة شانغاي ومجموعة البريكس، التي لم تكتسب مكانتها الدولية لولا الحرب السورية. وهذا قد يخرج مسألة إعادة الإعمار واستعادة الدولة لقوتها ومنعتها وتطوير نظامها السياسي من الفيتو الأميركي والشروط الغربية، خاصة بعد دخول دول جديدة الى مجموعة البريكس، خاصة الدول العربية منها.

لكن المصالح الاستراتيجية القومية السورية، يجب ألا تقف عند هذا الموضوع، وبخاصة أنها قد تكون الدولة العربية الأساسية التي ما زالت تواجه المشاريع الأميركية في المنطقة وترفض التطبيع مع كيان العدو، الا من ضمن سقف المبادرة العربية، الذي هو برأينا سقف متدن في كل الأحوال.

إذ ان لسورية علاقات جيدة مع الهند. وتحويل الخط الهندي بشكل كامل ليمر عبر الخليج ومرفأ حيفا، يعزل ايران نوعاً ما، ويشجع المملكة على التطبيع مع "إسرائيل". وهذه معركة مفتوحة يمكن للشام أن تقودها، برغم الحصار والوضع الاقتصادي السيىء، من خلال طرح بدائل لهذا الخط الجديد، حتى لا تكون الهند عرضة للابتزاز من خلال خط وحيد لا بديل له.

فمن جهة، يمكن تعديل الكوريدور الجنوبى الشمالي، الذي استثمرت فيه الهند مليارات الدولارات في مرفأ شاباهار الإيراني وفي سكك الحديد التي تبرطه بالشمال، ليتحول الى كوريدور جنوبي غربي، يبدأ من مومباي الى شاهابار، ومنه الى غربي ايران ثم العراق والشام الى البحر المتوسط.

إضافة أن العلاقات الآخذة في التطوّر مع المملكة العربية السعودية، يمكن أن تقدم خياراً آخر للخط الهندي الجديد الذي يصل من المملكة الى الأردن، بحيث لا تذهب كل التجارة بالضرورة حكماً عبر حيفا، بل يمرّ جزء منها عبر الشام وربما لبنان الى مرافئ بيروت وطرطوس واللاذقية، أو حتى تكمل برّا عبر تركيا، بعد المساعي الإيرانية الروسية لتطبيع العلاقات السورية التركية، ومنها الى جنوب شرق أوروبا. وهذه المسارات تضيف خيارات بديلة للخط الهندي، تجنبه الابتزاز الإسرائيلي يوماً ما.

وهذه الاستراتيجيات بحاجة الى استعادة قوة الحكم في الشام، من خلال الانتقال من عقلية إدارة الأزمة، الى عقلية المبادرة الاستراتيجية، اقليمياً ودولياً، لاستعادة الدور الإقليمي والدولي للدولة السورية.

وهذا يتطلب الإسراع في تعديلات جذرية على الواقع السياسي المحلي، بالتوازي مع خطط اقتصادية ومالية لاستعادة التوازن الداخلي، والتعامل بشكل جدي ومبادر مع تركات الحرب، من إعادة الاعمار الى عودة النازحين الى استعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي ومكافحة الفساد وتطوير آليات الحكم، واستعادة وحدة البلاد. إضافة الى إعادة بناء الجسور مع الأردن والعراق ولبنان، لتؤدي دوراً اساسياً ببناء تكتل اقتصادي اجتماعي على مساحة سورية الطبيعية، يقيها مطبات التآمر والحصار، ويشكل توازناً مع ايران وتركيا ومجلس التعاون الخليجي، مع علاقات مميزة مع هذا المجلس، وإعادة تعزيز الموقع والدور العربي لسورية، من أجل إعادة إدخال العرب الى الخارطة الاستراتيجية الإقليمية والعربية، واستعادة الثقل القومي والعربي في معادلات المنطقة والعالم.

على أمل أن تشكل زيارة الرئيس الأسد الى الصين، مدخلاً أساسياً لهكذا خريطة طريق، يجب أن تتبعها زيارة مماثلة الى الهند، وتفعيل الانفتاح العربي. لا شك أن السياسات الدولية الاستراتيجية تقوم على المصالح القومية المتداخلة والمتقاطعة للدول، وعلى الخطط المتشابكة والمعقدة، لا على الفهم السطحي المبسّط والمبتسر للعلاقات الدولية. وعلى كل من يريد أن يكون لاعباً اقليمياً ودولياً في مسائل استراتيجية، أن يتقن فن السياسات والعلاقات الدولية، بشكل منسجم مع مبادئه وثوابته.

الأكثر قراءة

قاسم: الأموال التي قدّمها الإتحاد الأوروبي للبنان كان من الأجدر أن يضعها في سوريا