اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

قالت لي امي ذات مرة انها تتلقى علاجا عند طبيب جزيني، "انساني في تعاطيه مع مرضاه ومتفانٍ في عمله، هو قديس حي يزرع الامل في العقول ويشفي النفوس وينعش القلوب". اخبرتني عنه قبل رحيلها ببضعة شهور وكأنها تريد ان ترد جميلا لهذا الطبيب لطالما عالجها بمحبة وانسانية عالية. سمعتها جيدا ولم أدرك وقتذاك انها توصيني بمحبته ورد "المعروف" له بأي طريقة. في السنة التي توفيت فيها امي اراد هذا الطبيب تجديد التزامه في العمل السياسي الذي بدأه سنة ١٩٩٢، فكنت مجندا في حملته الانتخابية وانا لا ازال يافعا ولا اعرفه بعد. كان كل همي أن البي طلب امي وان أساهم في ان ترد هي، من خلالي، جميلا لم تقدر ان تفيه اياه وهي على قيد الحياة.

حصلت الانتخابات وحافظ هذا الطبيب على مقعده النيابي ففرحت كثيرا بما حقق وانا لا ازال لا اعرفه بعد. كم كنت ممتنا للرب آنذاك إذ شعرت في تلك الفترة انني انا الفائز ليس بالمقعد النيابي بل بثقة والدتي التي كانت قد رحلت.

مرت الايام وتعرفت الى هذا الطبيب وادركت صوابية امي اذ كنت كل مرة التقيه تختلجني مشاعر غريبة لكنها جميلة لأنني كنت ارى شيئا من امي فيه.

بالفعل كان الطبيب السياسي هذا ابن ارضه وابن بيئته إذ كان يتردد الى مسقط رأسنا اسبوعيا ودوريا وفي أصعب الظروف. خلال وجوده في بلدته تعرفت الى عائلته أكثر وأكثر وبالأخص زوجته التي كانت سيدة مجتمع من الطراز الرفيع إذ يكاد لا يوجد عمل انساني او اجتماعي في المنطقة الا ويدها فيه، اطال الله بعمرها.

تعتبر خدمة الآخرين هدفاً أساسياً لهذا الطبيب الإنساني إذ كان متفانياً في كل ما يقدمه لمرضاه سواء كان في العيادة أو المستشفى أو حتى في منطقته. كان أملاً للعديد من الناس حيث كان يبذل قصارى جهده لعلاج المرضى ورعايتهم وبالأخص الفقراء منهم. استخدم خبرته ومهاراته في تشخيص وعلاج الأمراض، وعمل على توعية المرضى بأهمية الوقاية والنظام الصحي الجيد.

ولأن هذا الطبيب ابن عائلة جزينية عريقة، وهي في اساس جزين، كان الارث الاخلاقي العائلي مؤثرا جدا في حياته وحياة عائلته، فزوجته وابنه وابنتاه هم من معدن صاف كالذهب. ولأنه كان يردد دائما عبارة "الله كريم" انعم الرب عليه بابن اسماه كريم بعد ابنتين اسماهما فلورانس   وندى، فكان ابا مثاليا ومحبا ومتفانيا معهم. كان همه الاول الاحترام والحس الانساني، هكذا كان في تربية ابنائه. كذلك العلم والثقافة كان لهما نصيب عند اولاده. الحوار والتصرف اللائق في المجتمع كانا ايضا في صلب تربيته. كان يشدد دائما على التعاطي بمحبة مع كل الناس وحتى المسيئين منهم وقد تجلى هذا الامر بعد حريق حارتهم في تسعينيات القرن الماضي ليعود ويعتمد سياسة الباب المفتوح لكل ابناء منطقته صغيرا كان او كبيرا.

لم يقتصر دور هذا الطبيب الإنساني على ممارسة طبه في الأعمال العادية، بل تجاوز حدود الممارسة الطبية الاعتيادية، حيث يُعتبر مدافعًا شرسًا عن حقوق المرضى وقضايا الصحة العامة. حافظ على البيئة من خلال عشقه للأرض فقد اشترى اراضي زراعية عديدة وكان يعمل فيها كأي عامل يساعده بل وأكثر كان يشجع اولاده على العمل في الارض واحترامها والاهتمام بالنبات والحيوان.

بالفعل يستحق هذا الطبيب لقب ابن الارض. عمل على الحد من التلوث ايمانا منه أن صحة الإنسان مرتبطة بصحة الأرض وبوجود بيئة نظيفة وسليمة.

لقد حقق هذا الطبيب الإنساني، قبل وفاته مؤخرا، العديد من الإنجازات والتكريمات على مدار حياته المهنية. حصل على العديد من الجوائز تقديرًا لجهوده في خدمة المجتمع والحفاظ عليه.

اتصلت بابنه كريم لأعزيه بوالده فطال الحديث لأكثر من نصف ساعة اذ كان كريم يحدثني بشوق عن الإنسان والأب والطبيب والسياسي وابن الارض وابن العائلة.

بالفعل تأثرت بمسيرة هذا الرجل الاستثنائي الفاعل بصمت وكما كان دائما صامتا رحل بصمت ليلة عيد انتقال السيدة العذراء. وكما يقول ابنه لقد انتقل هو ايضا الى دنيا الخلود تاركا وراءه ارثا غنيا بالانسانية والمحبة والتواضع والتضحية والتفاني في مهنته الطب التي لطالما اعتبرها رسالة.

يُعتبر هذا الطبيب من أهم الشخصيات الجزينية الحديثة ساهم في انقاذ الكثيرين من المرضى ورفع مستوى الرعاية الصحية في مجتمعه. تمتع بشغف كبير في خدمة الآخرين بشكل فريد، متفانياً ومحباً للأرض وكل ما فيها. يعتبر هذا الطبيب قدوة لعائلته وللجزينيين وللمجتمع وللأجيال القادمة.

رحم الله روحك الطاهرة يا حكيم وجعلك قديسا عن يمينه كما كنت هنا طبيبا قديسا.

الأكثر قراءة

الضفة الغربيّة... إن انفجرت