اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لعلّه السر الأكبر والأهم الذي يَصعب على العدو فك شيفرته أو فهمه أو اكتشافه من بداية الصراع، فمنذ نشأة المقاومة في لبنان وبيئتها أقوى أسلحتها، تَقوى بالمقاومة، والمقاومة تَقوى بها، فهي منها وتدافع عنها، علاقة تبادلية وتكاملية تعمّقت مع مرور الزمن وبلغت ذروتها في الحرب الحالية، من عدد الشهداء، لموقف عوائلهم، لمشاهد تشييعهم، لصمودهم، لثباتهم، لوحدة موقفهم وتمسّكهم بخيار المقاومة أكثر من أي وقت مضى...

تُشكِّل البيئة الحاضنة لأي مقاومة هدفاً مباشراً، يَسبق الحرب ويرافقها ويتلوها، لذا تعرّضت من البدايات الى حرب نفسية وإقتصادية وثقافية وأمنية باعتبارها خط الدفاع الحصين والرَحم المنتِج للمقاومين، هذا من جانبها أما من جانب المقاومة وفي الحرب الحالية تحديداً كان من أهداف قيادتها في تكتيكاتها العسكرية تجنيب هذه البيئة ما أمكن المخاطر، فكان وما زال تقديم الشهداء على الجبهة في سياق هذه الحماية للبيئة، وبالتالي ساهمت الدائرة الضيقة وهي عوائل الشهداء في دفع هذه الضريبة عن البيئة والوطن والأمة.

لقد أبرزت مواقف عوائل الشهداء مشهداً مهماً في التحدّي، مخالفاً لتوقعات العدو وأعوانه في الداخل والخارج حيث تحوّلت شهادة المجاهد من كونها خسارة الى فرصة للتنافس في إظهار الفخر والرضا والعطاء والتسليم بخيار المقاومة، أمرٌ بحق يحتاج الى التوقف عنده مليّاً، فهو نقطة فاصلة بين عناصر القوة في الجبهة الداخلية للمقاومة وعناصر الضعف في الجبهة الداخلية للعدو، فموقف عوائل الشهداء تحوّل الى درس من دروس التعبئة والتحشيد الثقافي والمعنوي وشكّل قدوة لعوائل المقاومين المرشَّحين لتقديم القرابين، وقد زاد في تماسك هذا الموقف، نموذج القادة والكوادر وأبناء القيادات السياسية والعسكرية الذي تقدّمه المقاومة الإسلامية.

نموذج كان آخره استشهاد نجل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الذي أعطى بموقفه وتماسكه واستبشاره دفعاً معنوياً لكل بيئة ومجتمع المقاومة بحيث اكتسب النائب رعد بهذه الشهادة رمزية إضافية جعلت من دخوله الى بيوت عوائل الشهداء فرصة للتعبير بسهولة عن القناعات والمبادىء وقيمة التضحية وهذا ما عبّر عنه هو شخصياً مِن أنه كان يخجل من عوائل الشهداء حين يُحدِّثهم عن عظمة أبنائهم قبل أن يتذوّق هو لذة هذا الطعم، وهذا ما تعلّمه كما يقول أبو حسن من السيد حسن نصرالله عندما نعى نجله الشهيد هادي.

أربعون عاماً مرّت على هذه المسيرة وكأن مشهد عوائل الشهداء اليوم لم يمر من قبل، مِن فخر وعزّة وكرامة وإستعداد للتضحية، وكأن بيئة المقاومة تنضج عند كل تجربة جديدة، تُراكِم الوعي، وتُركِّز أكثر على القضية المركزية للأمة، قضية فلسطين التي هي في الأساس قضية ثقافية، لذلك تتفاعل معها انطلاقاً من ذلك وباعتبارها الهدف الواضح والمُحدَّد.

أما في ما يتعلّق بمواجهة الصورة النمطية التي يُحاول الإعلام المعادي للمقاومة أن يرسمها في توصيف دوافع المجاهدين للقتال والإدعاء بأنهم يُقاتلون من أجل "٥٠٠ دولار" أو من أجل مشروع إيراني أو ليأسهم من الحياة، ترد شهادة الدكتور علي حدرج على كل هذه الإدعاءات المشوِّهة للصورة الحقيقية، بحيث أنه كان يعيش في نعيم مادي وكان مبدعاً في تخصصه الجامعي وينعم بحياة عائلية يتمنّاها أدعياء ثقافة الحياة جميعاً كما ذكر في وصيته، ورغم ذلك استُشهد دفاعاً عن قضية مُحِقّة، عن فلسطين وأطفالها والمستضعفين في الأرض، فكان جهاده في سبيل الله وليس لتحقيق الطموح الإيراني في لبنان الذي رسمه أتباع المشروع الأميركي بخيوط الوهم والدعاية دون دليل أو برهان...

هنا تبرز ثقافة الإنسان ركيزة ثقافة الحياة التي تمتلكها هذه البيئة مقابل ثقافة الموت والخضوع والإستسلام، ثقافة الدفاع عن الأوطان وبناء المستقبل، فما قيمة الإنسان عندما لا يقف مع أخيه الإنسان ولا يُميِّز بين الحق والباطل، لذا تُعتبر هذه المعركة تحديداً أهم معركة أخلاقية وإنسانية في التاريخ باعتبارها تحمل عنوان إسناد وتضامن مع شعب يريد العدو الإسرائيلي إبادته.

ولأن الحياة غالية عند جميع الناس فإن أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله تخنقه العَبرة حين يتحدّث عن تضحيات عوائل الشهداء ويُعبّر بعاطفة صادقة وحرقة عن أمنيته بأن يزورهم ويُقبِّل جباههم وأيديهم، فهو ليس قائداً سياسياً يَستخدم شعبه لأجل سلطة أو شهرة بل هو أميرُ رَكبٍ تندمج فيه عاطفة الأبوّة مع بأس القيادة ورأفة العالِم الرباني مع الحكمة والصلابة، هو قائد يَعرف العدو صدق كلمته ويلوذ الصديق بعباءة رحمته...

هذا ليس تناقضاً في شخصية القائد حين يكون منتسباً الى مدرسة علي بن أبي طالب الذي كان سيفه يقطر دماً في الحروب وكانت عينه تقطر دمعاً فوق رؤوس الأيتام...

إذاً.. نحن أمام صورة مكتملة العناصر لجبهة متماسكة تحمل رسالة الحياة وتنسجم في تضحياتها مع رسالتها وهويتها الثقافية وتواجِه الألم بالصبر والثبات والأمل بأن تثمر دماء شهدائها نصراً نهائياً على العدو بعد أن انتصرت بروحها وأخلاقها وإنسانيتها.


الأكثر قراءة

سيجورنيه يُحذر: من دون رئيس لا مكان للبنان على طاولة المفاوضات الورقة الفرنسيّة لـ«اليوم التالي» قيد الإعداد حماس تؤكد: لا اتفاق من دون وقف نهائي لإطلاق النار!