اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

من رحم الظّلام الدّامس الّذي يلفّ العالم، جرّاء العنف والإرهاب الإسرائيلي في فلسطين، قد يلوّح فجر "الدولة الفلسطينية" الموعودة.

لكنّ هذا المولود المنتظر، قد يولد مشوهًا، وهذا التوقّع ليس ناتجًا من "تنجيمٍ" أو "رؤيةٍ غيبية"، بل هو حصيلة لما نسمعه ونراه ونستشمّه من "طبخة غريبة العناصر والمكوّنات"، صرّح بها وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون خلال زيارته لبنان بهدف تهدئة التوترات الإقليمية.

وإذ أكّد كاميرون ضرورة وقف القتال في غزّة تمهيدًا لـ "وقف مستدام لإطلاق النار"، اشترط لاعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية، رحيل قادة حركة حماس من غزّة، معتبرًا أن "تنفيذ حلّ الدولتين لا يمكن أن يتمّ مع استمرار سيطرة المسؤولين عن أحداث 7 أكتوبر على غزّة".

لا شكّ أن وعد كاميرون يثير تساؤلاتٍ عن دوافعه وتوقيته.

فمن جهة، صحيح أنّ فلسطين تحرّرت من الاستعمار البريطاني قبل تعرّضها للاحتلال الصهيوني؛ لكنّ الأصحّ من جهة أخرى، أنّ وعد كاميرون أعاد طرح السؤال الأساسي: "من يقرّر مصير فلسطين ومستقبلها ؟".

لقد مضى أكثر من 100 عام منذ 1917، عندما أرسل زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا رسالة إلى اللورد روتشيلد، عرفت باسم "وعد بلفور "، أعلن فيه دعم الحكومة البريطانية لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.

واليوم، "انقلبت الآيات" ليأتي وزير الخارجية البريطاني ويؤكّد التزام بريطانيا بحلّ الدولتين وإقامة "الدولة الفلسطينية".

والمخزي في الموضوع أنّه بينما كان اليهود، بدعم من بريطانيا والصهيونية العالمية، يسعون لإقامة دولة على أرضٍ لا يملكونها، تحوّل نضال الفلسطينيين اليوم، والّذي استمرّ ثلاثة أرباع القرن، إلى استعادة "بعضٍ" من أرضهم وبناء "دولتهم" الّتي تمّ قضمها، وسرقة هويتها ووجودها، وانتزاع حق أبنائها.

لا شك في أن وعد بلفور هو "الغلطة السياسيّة التي هي رأس الفجائع الفلسطينية في هذا الزمان".

فمنذ نشأته، أدّى وعد بلفور إلى فظائع رهيبة ونتائج كارثية لا يزال العالم يعاني منها حتى اليوم، بدءًا من هجرة اليهود إلى فلسطين واحتلالها عام 1948، مرورًا بتشكيل "جيش الإنقاذ" الذي ضم 40 ألف جندي من مختلف الدول العربية لمنع إنشاء "دولة إسرائيل".

كما ساهم وعد بلفور في إبعاد العرب عن أرضهم وإغراق فلسطين المحتلة في بؤس سياسي واقتصادي وإرهابي، بعد فشل حلول نمط أوسلو في تحقيق الهدوء والسلام.

وللمقارنة، قبل عام 1948، كان الفلسطينيون يملكون 94% من أراضي فلسطين، بينما اليوم فإنّ كيان الاحتلال يسيطر على أكثر من 78% من أراضيها، في حين لا يسيطر الفلسطينيون إلّا على 17%، متمثّلة في الضّفّة الغربية وقطاع غزة.

لقد تمّ زرع "دولة إسرائيل" بالقوّة في أرض أمّة عربية لها مواصفاتها وتقاليدها ولغتها وتاريخها. هذا الكيان لا ينتمي إليها لا في الدم، ولا في اللغة، ولا في الثقافة، ولا في التاريخ ولا في الجغرافيا.

فبأي شريعة يمكن لحقوق "ظاهرة كشمس الضحى" أن تستباح بهذا الشكل؟

هل يُعيد وعد كاميرون التاريخ إلى الوراء ليكرر مأساة وعد بلفور بثوب جديد؟

وهل يمكن أن يحمل اقتراح وزير الخارجية البريطاني بارقة أمل ولو ضئيلة لفلسطين، أم أنه سيعمّق مصادرة ما تبقى من "فتات" أرضها؟

يبقى وعد كاميرون غامضًا، تاركًا أسئلة تُقلق كل فلسطيني:

* ما هو شكل "الدولة الفلسطينية"؟

*هل ستكون على كامل أراضي الضفة والقطاع؟

* هل ستُسيطر هذه الدولة على حدودها ومعابرها مع الدول العربية؟

* وهل ستملك حرية استعادة مواطنيها من الخارج؟ أم ستبقى خاضعة للهيمنة الإسرائيلية المباشرة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها وحماية حدودها؟

إنّ اقامة الدولة الفلسطينية "ظاهرا"، بينما سلبَها "فعليا" حقّها في بسط سيادتها، وابقائها عرضة للضرب، هو اغتصاب جديد لفلسطين.

ليس وعد كاميرون بدولة فلسطينية إلّا شعاع أمل ضعيف يهدّده الغموض والشكوك.

فما بين وعد بلفور "المشؤوم" ووعد كاميرون "المبهم"، يبقى مصير فلسطين ومستقبل شعبها رهينةً للألاعيب السياسية والمصالح الدولية.

لا شك أن حلّ الدولتين قد يكون الحلّ الأمثل، شرط أن يكون مقرونا بالتزام حقيقي من جميع الأطراف، وتنازلاتٍ جوهرية من قبل "إسرائيل"؛ وإلا فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من العنف والدمار، من دون أي أمل في تحقيق السلام العادل والشامل.

إن أيّ حلّ يُقوّض حقوق الفلسطينيين هو كـ "لغم" ينفجر مرارًا وتكرارًا، ليعمّق الهوة ويعقّد فرص السلام والمستقبل.

في النهاية، لا يمكننا القبول بحلّ منقوص يبقي فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويُنقص شعبها من حقوقه وكرامته. فصمود الشعب الفلسطيني يستحق أكثر من مجرد فتات "دولة" منزوعة السيادة والقرار، خاضعة للابتزاز والهيمنة والمزاج الصهيوني.

ختاما، إن مستقبل فلسطين ومستقبل المنطقة بأكملها يتطلبان حلًا عادلًا وشاملًا يُنهي الصراع ويحقق السلام الدائم.

فهل ينجح وعد كاميرون في تحقيق هذا الحلم؟ أم سيصبح مجرّد وعد آخر يُضاف إلى سلسلة الوعود السّابقة؟

الأكثر قراءة

من الكهوف الى الملاهي الليلية