"إنّ بُنية مكان النصّ تصبح نموذجًا لبنية مكان العالَم، وتُصبِح قواعد التركيب الداخلي لعناصر النصّ الداخلية لغة النمذجة المكانية" هذا ما يقوله يوري لوتمان في مقاله حول مشكلة المكان الفني، ثمّ يضيف "ومن ثمّ تصبح الأنظمة التاريخية واللغوية-القومية للمكان عمادًا ينتظم حوله بناء "صورة للعالم" وتكون هذه الصورة نسقًا أيديولوجيًّا متكاملًا يتعلّق بنمط معيّن من الثقافات". ولأننا أمام رواية "قناع بلون السماء" لباسم خندقجي (دار الآداب 2023)، كان لا بدّ من هذه المقدّمة، لا لأننا سنخوض في الأنماط التي اتبعها خندقجي بتفصيلاتها وتضادها ورمزيتها، بل للتأكيد على علاقة الأيديولوجيا والتاريخ والقومية بالمكان الروائي.
إنّ البدء بقراءة هذه الرواية لا يشبه أيًّا من النصوص الروائية التي يبدأ صفحاتها الأولى المتلقّي مِنَّا، فأنت تُقبل عليها وفي بالِك فكرة مسيطرة، باسم خندقجي الأسير، الروائي المثقّف المبدع، من داخل غرف الأسر وما يرافقها، ماذا قدّم لنا؟ لتبدأ مع نصّ يشبه كل نصوص الرواية العربية التي تسعى نحو التجديد في اللغة والخطاب والفكرة واللعبة الروائية، مع نصّ اختار كاتبه بطله أن يكون كاتبًا روائيًّا يسعى لكتابة رواية حول مريم المجدلية، ليردّ على "شيفرة دافنشي" لدان براون الشهيرة. فيزول التعاطف مع الكاتب، لتبدأ بتناول نصّ روائي من الطراز الرفيع.
نور الشهدي، الفتى الذي ماتت أمه في أثناء ولادته، بملامحه الأوروربية التي أعطته لقب السكناجي في المخيّم، ووالده الذي اعتنق الصمت بعد خروجه من الأسر كسيرًا مهزومًا لأنه اكتشف كيف بيعَت القضية ودماء رفاقه بمعاهدة سلام، نور الذي يجد بالصدفة هوية لشاب "إسرائيلي" اسمه أور شابيرا، ومن هناك تبدأ المغامرة.
قبل الخوض في المغامرة، لا بد من الإشارة إلى أن نور كان يرافق والدة صديقه الأسير مراد كلّ شهر لتزوره في سجنه، مراد الذي لا تطالعنا الرواية بالكثير عنه، سوى أنه يصبح صوت الضمير الذي يحاوره نور في أثناء تسجيله للبطاقات الصوتية وهو يعدّ العدّة لروايته. مراد الأسير، الذي كان صوت الضمير، لعلّ خندقجي أراده صوته هو، ولكن على لسان شخصيته الروائية، مراد الذي لا نسمع صوته، بل نسمع توقّعات نور لما سيقوله له لو أن الفرصة أتيحت له، وهنا يكون مراد/باسم، الذي نقرأ روايته التي لم يستطع الحديث عنها إلّا من خلالها.
يقرّر نور/أور الدخول مع البعثة التي تنقّب في إحدى المستعمرات عن آثار للفيلق الروماني السادس، فيجدها فرصة ليبحث عن بئر المجدلية في إحدى مناطق تل مجدو، فتبدأ مع هذه الرحلة، رحلة بحث نور عن خيوط روايته، ورحلة اكتشافنا للأفكار التي أرادها خندقجي أن تصل المتلقّي على ألسنة شخوصها، من خلال اختراق الحدود، الحدود التي نرى اجتيازها صعبًا ومستحيلًا، ليخترقها نور بكل بساطة، لتؤسس إلى أن الاختراق بات متاحًا (وقد حصل في تشرين بالفعل). وهنا تبدأ كل الأسئلة الإشكالية بالظهور، ليس بشكل ممل في حوارات بالية، بل من خلال حركة شخصيات داخل مكان هو السؤال الإشكالي الأكبر، فلسطين.
نور/أور، الذي يخيَّل إليك أنه بالفعل شخص يعاني من انفصام في الشخصية، فحواراتهما كثيرة وصدامية، ولكن النصّ دائمًا يعود بنا إلى أساس العلاقة، وهي المبنية على التقمّص فقط، ولكن التقابل الحاصل بين الأمكنة، أو المكان نفسه، من وجهة نظر الشخصية اليهودية ووجهة نظر الشخصية الفلسطينية، يبقى هو المسيطر، ولا تبقي الرواية على نور وحده ليدافع عن المكان/فلسطين، بل تدخل سماء اسماعيل على خط السرد، ليكون دفاعها هو الأبرز، فكلّنا نقول الكلام نفسه، ولكن الرواية أخبرتنا، عرفت أو تنبأت، بأنّ الرأي العام الغربي سيستمع إلى سماء ليس إلى أيالا فقط، فتقوم فتاة بلجيكية في النص بمقارعة أيالا بحججنا، نحن المؤمنين بقضية فلسطين، وهذا بالفعل ما أرادته الرواية، وقد تحقق لها، على الرغم من كل الدم الذي قدّمته غزّة حتى اليوم، وما زالت.
سماء اسماعيل، والوشم على يدها "حيفا 1948" من أهم رموز الرواية، فهي تريد التأكيد على أن عرب الـ48 لم يضحّوا بوطنيتهم ولا بكرامتهم ولا بفلسطين، وقد شهِدنا تحرّكاتهم أيضًا وفهمنا موقفهم عندما نظرنا إلى الأمر من زاوية رؤيتهم. أما الحوار الأكثر رمزية في النص فهو حوار نور مع المرآة، وفكرة المسخ الذي تحوّل إليه نور بوضعه قناع أور، وإنسانيّة نور وحقيقته وحقّه في أن يكون إنسانًا.
نهاية الرواية كانت متوقّعة، ولكنها لم تكن مأسوية بأن يُفتَضح أمر نور عندما يعترف لسماء بأنه ليس أور، بل كانت باعثة للأمل بأنّ الغد لا بدّ أن يحمل معه تغييرًا في مسار القضية ومسار المقاومة ومسار العودة ومسار التحرير. الأمل الذي تنتهي معه الرواية، فيرمي نور نجمة داود التي كانت في رقبته، ويمزّق هوية أور، وينطلق مع سماء، في انطلاقة أشبه بنهاية رواية "عائد إلى حيفا" عندما يقول سعيد س. لصفية "أرجو أن يكون خالد قد ذهب... أثناء غيابنا"، أي أن يكون قد التحق بالمقاومة وعارض قرار والده، ليقول نور لسماء، بوصفها فلسطين والمجدلية والوطن والحب والمرأة... "أنتِ هويّتي ومآلي".
يتم قراءة الآن
-
العلويّون ضحايا العلويين
-
حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان
-
إيران: الانفجار الكبير أم التسوية الكبيرة؟
-
"Soft landing" فرنجية : فتّش عن المحيطين "كفانا خسارة"! جنبلاط نسق مع بري وقطع الطريق على جعجع القوات تنتظر بري وناقشت كلّ الخيارات منها المقاطعة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:03
وسائل إعلام "إسرائيلية": تقرير أولي عن محاولة طعن عند حاجز حيزما قرب القدس وتم إطلاق النار على المنفذ
-
12:54
"يسرائيل هيوم": شاحنة دهست عدة أشخاص في حولون والخلفية قيد التحقيق
-
12:53
كتائب الشهيد أبو علي مصطفى: استهدفنا بالاشتراك مع سرايا القدس تحشدات "جيش" الاحتلال شرق رفح برشقة صاروخية من عيار "107"
-
12:53
الجبهة الديمقراطية تدين العدوان الأميركي – البريطاني – الإسرائيلي على اليمن
-
12:52
الجبهة الديمقراطية: العدوان على اليمن يؤكد مرة أخرى أننا أمام مشروع أميركي – أطلسي – "إسرائيلي" لإعادة هندسة أوضاع المنطقة
-
12:47
اشتباكات عنيفة في مخيم جنين بين الأجهزة الأمنية ومقاتلين