اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عندما تبدأ بقراءة نصّ روائي يوهمك في بدايته بأنّه سيكون نصاً من النصوص التي لجأت إلى التاريخ وشخصياته وأحداثه، تقول في نفسك، ألم يكتفِ الكتّاب من هذه اللعبة بعد! ألم يملّ الكاتب من الكتابة على غرار الكثيرين ممن كتبوا قبله من خلال هذا القالب، فمنهم من ُوفِق ومنهم من لم يوفَّق! وعندما تبدأ برواية "دائرة التوابل" (منشورات المتوسّط 2022) لصالحة عبيد الإماراتية، وما تقرّه في بداية الرواية من إيهام بأنها نصوص متخيّلة للخليفة عبد الله بن محمد المعتز، تُستَفّز وتقول في نفسك فلنبحث عن جديد قد تقّدمه هذه الرواية، وأنت متيّقن من أنها لن تستطيع ذلك.

فصل الرواية الأول يبدأ بالفعل مع ابن المعتز في سامراء ما بين 861 و881م، ولكن لا، أبت الرواية أن تكون كمثيلاتها، فيجد المتلّقي نفسه أمام شيريهان، المسمّاة بالفعل على اسم المصرية الشهيرة، علّها ترث أنفها، ومن هنا تبدأ رمزية الأنف وحاسة الشّم، بالظهور وبالسيطرة على مساحة النصّ منذ بدايته.

تحكي لنا الرواية قصّة شريهان، وقصة شمّا، (ومعهما شخصية امرأة ستظهر في نهاية النص) التي تفصل بينهما ما يقارب مئة عام، هنا في بلاد الإمارات العربية، شريهان التي يموت عمها فينال الحزن من أمها، والتي تجد ميزة ما لديها وهي تمييز روائح الناس من حولها، ما عدا ناصر صاحب الرأس الكبير، رفيق لعب الطفولة بجانب جدار المقبرة، شريهان التي تجد نفسها مشدودة نحو الموت، ومعرفة أحوال الأموات، ولأنها ممنوعة من دخول المقبرة، تقرر أن تدرس الطبّ الشرعي، وعندما يرفض والدها سفرها، تجد في ناصر، الذي يظهر فجأة ويريد خطبتها، طريقها نحو دراسة ذلك الاختصاص في أدنبرة.

أما شمّا، والتي تميّزت بقدرتها على تمييز الروائح، تلك الميزة التي جعلتها ذات شأن في عصر لم يكن للمرأة من الشأن ما قد يجعلها تُعاَمل كما عومِلت هي، وعلى الرغم من أن الميزة لم تمنحها ما منحته لابن عمها مظّفر، إلا أنها أعطتها من الحرية والقيمة ما لم تنله امرأة في تلك الأيام، ما جعل أخوها الذي اُتهم بأن جنية تسكنه، يقوم بقصّ ذلك الأنف وتحويلها إلى مسخ لا قيمة له.

تعود الرواية بين الحين والآخر إلى قصة ابن المعتز، الذي لمع اسمه شاعًرا، وتخبرنا كيف أُقنِع بأن يستلم الحُكم، وكيف تم اغتياله فيما بعد، بنصّ حكائي تاريخي لا يقّدم جديًدا، وهو الجديد الذي قّدمته روايتنا، بأنها اعتمدت على هذه الشخصية من أجل رفِد نصّها بتلك النفحة، وبأنّ مصدر القدرة على تمييز الروائح، وأن تلك المقدرة وما يرافقها من لعنات، له ارتباط بالتاريخ، وله ارتباط بالخيانة والموت وتحرير الجسد.

النصّ فيه شعرية بقدر من فيه من سردية، وهو ما سأتحّدث عنه في هذا المقال، فرمزية النار أو شعريتها كانت لها مكانة كبيرة في النصّ، وخصوصاً في فصل من فصولها مهّدت لما سيواجهه ابن المعتز، فترى النار تتحدث بلغة شعرية عميقة، تخال أنك أمام نصّ شعري حديث وما بعد الحديث، تلك النار التي تنال منه، ولكنه لا يتحّرر إلا بالرمز الآخر، والذي كان له الحضور الأبرز، وهو رمز الماء، فكان رمز الحرية منذ بداية النص، مع البحر والسفن ورحلات شمّا وجزيرة التوابل، وبعدها البحر وناصر وما حرره المشي على شاطئه من قيود بينه وبين شريهان، والتي، مع هذا التحّرر، دخلت في سجنها الجديد، وهو الحمل نتيجة العلاقة التي بدأت مع تلك الحرية، وصوًلا إلى ظهور الشخصية "النسوية" الجديدة في الرواية القديمة التاريخية، فاطمة بنت ثابت، التي حررت جسد ابن المعتز من التراب إلى الماء، ماء دجلة، ومعها اكتسبت قدرة الشمّ وتمييز الروائح، فنكتشف معها أنّ سلالة شريهان، مروًرا بشمّا، بدأت مع هروب فاطمة للبحث عن حبيبها العبد الذي كان قد وصل إلى جزيرة العرب، ومن هنا ندرك أن الأنف الأفطس هو أنف عبد تحرّر لأسباب لن نخوض فيها.

شعرية التراب أو رمزيته حضرت أيضاً في النص، حيث نجد شمّا التي أرادت إحياء من ماتوا مع انتشار الجدري في ثلاثينيات القرن الماضي، ودفنوا أجسادهم طواعية وأبقوا على الرؤوس، فتلجأ شـمّا إلى التراب لتحيي الوجوه بأن شكّلك لها ملامح جديدة، فكأن النصّ يقول، ان ملامح جديدة سيشكّلها لنا التراب، عندما إليه نعود، قد تكون كحريٍة ما، لم يحصل عليها في حياته.

ولشدة ما أرادت الكاتبة لنصها بأن يكون واقعيًّا، حمّلته قسوةً لم يتوقّعها المتلّقي، فشريهان بالفعل قامت بقصّ أنفس طفلتها، بعدما استبدّ بها المرض النفسيّ، الذي لم يكتشفه أحد، والذي ربطه هي بالموت والحرية، وخصوصاً بعد موت الأم، وبعدما عرفت سبب حزن الأخيرة على العمّ، ليكون الحبّ الذي مثّلته حال الأم التي سيطر عليها الحزن بموت ذلك العم، الذي تتركنا الرواية لنقّدر مدى عمق العلاقة، والتي أراها محبّة أنجبت طفًلا، لتكون هي اللعنة التي جعلتها تنجب طفلةً لا تريدها، هذه الدموية في علاقة شريهان مع جسدها ومع ابنتها، كانت أعمق ما قّدمته الرواية، على الرغم من قّوتها وقسوتها، لتقول إنّ قيوداً ما زالت تتحكّم بواقع المرأة في هذه البلاد، لا بدّ وأن نتعامل معها بقوة وقسوة، كما تعاملت فاطمة منذ ألف عام، فثارت ولحقت حبيبها، لتتحرر وتحرره، لا أن تعود القود، في بلاد آخذة بالنهوض والتحرر والمدنية إذا استطعنا القول، ولكن الأمر ما زال يختلف، عندما يتعلق الأمر بالمرأة.

دائرة التوابل رواية نسوية برأيي، لمثقّفة وقارئة وموهوبة من الطراز الأول، حملت من الشعرية ما حملته من السردية، فكانت النار والماء والطين، بالإضافة إلى الهواء الذي حمل الروائح إلى تلك الأنوف، عناصر لا تشكّل العالم من حولنا فحسب، بل تشكّل عالم الرواية بطريقة جاذبة، وبواقعية وتخيّل لا تكاد تجد الخيط الفاصل بينهما، وبلغة سليمة عميقة سهلة في آن.

إنها رواية العناصر التي تشكّل الحياة، في دائرة غير متناهية، تربطها خيوط كثيرة، وصفتها الرواية باللعنات، لعنات قد نجد لها تفسيرات كثيرة إن أحلناها إلى العلم والطب النفسي وعلم التاريخ والاجتماع والفلسفة، ولكن ما هو أكيد، أن هناك الكثير لم نكتشفه بعد من عناصر تشكّل النفس البشرية.

الأكثر قراءة

حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان