اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تُعدّ باكستانُ "لغزًا" مُحيّرًا في عالمِ السياسةِ، فهي دولةٌ نوويّة سلمية غنيةٌ بالمواردِ، وشعبُها مُحبٌّ للحياةِ، لكنّها تواجهُ تحدياتٍ جسيمةً تُهددُ استقرارها وسلامها، كما تعاني من اضطراباتٍ داخليةٍ وصراعاتٍ خارجيةٍ تُلقي بظلالها على مستقبلِها. وبينما يصارعُ الشعبُ الباكستانيُّ لتحقيقِ طموحاتِهِ، تواجهُ الديموقراطيةُ تحديًا كبيرًا من قِبلِ الجيشِ الباكستاني الّذي يحاولُ فرضَ سيطرتهِ على مقاليدِ الحكمِ من جهة، والأحزابِ التقليديةِ التي تسعى للحفاظِ على مصالحها من جهة أخرى.

و في 8 شباط 2024، شهدت باكستان انتخابات عامة لرئاسة الوزراء، غابت عنها شخصية بارزة، ألا وهي رئيس الوزراء السابق عمران خان، بعد أن اتّحدت مصالح النخب، بقيادة الجيش، وبمباركة أمريكية، للتخلص منه.

ويُعدّ صعود خان وسقوطه قصة مثيرة للاهتمام، فعلى الرغم من أن رئيس الجيش الباكستاني "قمر جاويد باجوا"، هو الذي "هندس" ودعم وصول خان إلى السلطة في عام 2018،  وكانت العلاقة بينه وبين خان جيدة جدا؛ فقد ساءت العلاقة كثيرا بعد ذلك ، لان خان تخلّى فيما بعد عن وعوده الإصلاحية، و انصرف الى مغازلة التيارات الدينية، وإغضاب حلفاء باكستان التقليديين، - وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي كانت تصف باكستان بأنّها "أحلف حلفائها " في آسيا ، وذلك لأهمية باكستان الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، إضافة الى موقعها الاستراتيجي المطلّ على بحر العرب و جيشها القوي.

لكنّ خان أصرّ على اتباع سياسة وطنية مستقلة لا تقبل إملاءات الولايات المتحدة، ممّا أدّى إلى توتر العلاقات بين البلدين. في المقابل، تقرّب خان من الصين وروسيا، ورفض إدانة روسيا في الحرب الاوكرانية، فكان أول زعيم يلتقي بوتين في موسكو بعد إعلان روسيا شنّها الغزو على أوكرانيا، ممّا جعله في نظر أميركا في معسكر مناهض للغرب. ونتيجة لهذه المواقف، تمّت الإطاحة بحكومة خان في آذار 2022 بعد تصويت بحجب الثقة عنها .

وقد أتت انتخابات 2024 لتهزّ أركانَ النظامِ السياسيِّ الباكستاني بموجة من المفاجآت، ولتُعيدَ رسمَ خريطةِ القوى في البلاد ، بعد أن اتّخذت مسارًا مغايرًا لكلّ التوقّعات. فبينما كان الجميع ينتظر فوزًا سهلًا للأحزاب المدعومة من الجيش، برز حزب خان أي "حزب تحريك انصاف أو العدالة الاجتماعية"، فخالف كلّ التوقعات.

فعلى الرغم من الحظر المفروض على مشاركةِ حزبِ خان في الانتخابات، تمكّن هذا الأخير من الالتفافِ على هذا القرارِ بترشيحِ أعضائهِ كمستقلين، وحققّ إنجازًا مذهلًا بفوزهِ بـ 93 مقعدًا بينما فاز حزب الرابطةِ الإسلاميةِ بقيادة نواز شريف المدعوم من الجيش بـ 63 مقعدًا ، وفاز "حزب الشعب الباكستاني" الذي قادته لعقود عائلة آل بوتو، (ويقوده اليوم آصف علي زرداري زوج بي نظير بوتو، وابنها بيلاول بوتو) بـ 50 مقعدًا فقط، ليأتي حزب "وحدة المسلمين" الشيعي بزعامة الشيخ رجا ناصر بمقعد واحد.

وقد أثارَت هذه النتائج اتهاماتٍ بالتزويرِ من قبلِ الجهاتِ المشرفةِ على الانتخاباتِ، إذ زعمَ خان أنّ هذه التجاوزاتِ حرمتْهُ من 70 مقعدًا إضافيًا، ممّا أدّى إلى تفاقمِ الأزمةِ السياسيةِ في البلادِ. كما أثارَ فوزُ "حزبِ تحريكِ الإنصافِ" حرجًا كبيرًا للجيشِ والأحزابِ المنافسةِ، ممّا دفعَ بحزبِ الرابطةِ الإسلاميةِ بقيادةِ نوازِ شريفِ إلى التفاوضِ معَ حزبِ الشعبِ الباكستانيِّ لتشكيلِ حكومةِ ائتلافيةِ.

و لأنّ فوز حزب "عمران خان" بالمرتبة الأولى وحصده 93 مقعدًا لا يسمح له بتشكيل حكومة بسبب ترشح أعضائه بصفتهم "مستقلين"، سعى خان مجددًا لاستفزاز الجيش والتحايل على القانون من خلال الانضمام إلى حزب "وحدة المسلمين"، الذي حصد مقعدا واحدا في الانتخابات، ليصبح هذا الحزب الشيعي ، والّذي حلَّ في المرتبة الأخيرة، هو "الحزب الحاكم"، بعدَ زيارةِ زعيمِهِ لخانَ في السجنِ واتّفاقهما على هذا المخرجِ.

لا ريبَ أنّ انتخاباتَ 2024 تُمثّلُ علامةً فارقةً في تاريخِ باكستان، حيثُ فتحتْ البابَ على مصراعيهِ أمامَ تحدياتٍ جسيمةٍ، مؤكّدةً أنّ باكستانَ مقبلةٌ على مرحلةٍ حاسمةٍ وحافلة بالمخاطرِ.

فلا يخفى على أحد أنّ باكستان نجت من إعلان إفلاسها العام الماضي بدعم من صندوق النقد الدولي، وأنها لا تزال تواجه تحديات اقتصادية هائلة. وفي ظلّ التضخم القياسي الذي تعاني منه، والذي بلغ 28% في كانون الثاني الماضي، واحتياطي نقدي بالكاد يكفي لتغطية الواردات الأساسية لـ 6 أسابيع، تواجه الدولة خطر الانهيار.

يعتمد مستقبل باكستان على تجديد اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في نيسان المقبل للحصول على قروض إضافية، لكن ذلك يتطلّب إجراء إصلاحات اقتصادية مؤلمة، كخفض الدّعم وتخفيض العملة ورفع الأسعار، وهي إجراءاتٌ من الصعب اتّخاذها في ظلّ نقص الدعم الشعبي، وشرعية الحكومة المشكوك فيها، ووجود معارضة قوية.

في النهاية، تقفُ باكستانُ اليوم على مفترقِ طرقٍ، إمّا الاستمرارُ في سياستها الحالية، أو السعيُ نحو إجراءِ إصلاحاتٍ جذريّة تؤدّي إلى تحقيق الاستقرارِ .