اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

طرح لإعادة تفعيل العمل المصرفي لا يُكلّف الدولة إلا إعادة الثقة

بعد الضربة القاضية التي وجّهها مجلس شورى الدولة لمسوّدة مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان، وإعادة تنظيمها الذي تقدّمت به حكومةتصريف الاعمال، عبر إسقاط قرارها بشطب ديونها للقطاع المصرفي، تعود إلى الواجهة من جديد مشكلة تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر. المشروع الذي كان يُحمّل مسؤولية الخسائر بالكامل للمصارف واستطرادًا للمودعين، لم يعد يستطيع فرض نفسه حتى من خلال قانون، إذ ان حكم مجلس الشورى الدولة يمنع حتى على المجلس النيابي إصدار قانون يشطب الدين العام، بحكم أن هذا الأخير مخالف للدستور. ويبقى السؤال: كيف يمكن تحديد مسؤولية كل فريق؟

بالطبع هناك انقسام لدى الرأي العام، حيث هناك من يريد تحميل هذه الخسائر للدولة بالكامل، وهناك من يريد تحميلها للمصارف بالكامل. والكل يعلم أن لا الدولة ولا المصارف تملك الملاءة الكافية لتحمّل الخسائر. بالطيع هناك حقائق لا يمكن نكرانها على مثال تقرير «ألفاريز آند مرسال» الذي قال بشكل واضح أن المصرف المركزي حوّل أكثر من 48 مليار دولار أميركي للدولة اللبنانية، وهناك تقرير «بنك أوف أميركا – ميريل لينش» بتاريخ تشرين الثاني 2019 ، الذي يُظهر أن 85% من دين الدوّلة اللبنانية هو داخلي، أي اقترضته الدولة من المصارف والمصرف المركزي، وهناك بعض الارتكابات التي قام بها بعض القيمين على القطاع المصرفي...

رمي الكرة بين المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية لن يُجدي نفعًا، خصوصًا أن الخاسر الأول هو المودع والمواطن اللبناني. لكن قبل الدخول في تفاصيل تحديد المسؤوليات، يجب توضيح نقطة أساسية ألا وهي كيف تمّ صرف الدولارات على مرّ السنين منذ العام 2015 وحتى اليوم:

- أولًا الاستيراد: الاستهلاك المحلّي، بالإضافة إلى التهريب (إزدهر منذ العام 2011)، والذي كان يعتمد سابقًا بنسبة تفوق الـ 80% على الاستيراد، كان يتمّ من خلال المدخول بالعملة المحلية التي يتمّ تحويلها إلى دولار أميركي. وقد استفاد من هذا الأمر بالدرجة الأولى التجّار المستوردون وحماياتهم من أصحاب النفوذ عبر تحقيق أرباح خيالية، بالإضافة إلى الشعب الذي كان يستهلك كل شيء تقريبًا من الخارج، وبعض الدول المجاورة نتيجة عمليات التهريب خصوصًا في السنين الأخيرة. وقد أدّى تشابك المصالح بين السياسة وعالم الأعمال، إلى تراخي الدولة عن فرض رسوم جمركية إضافية على الاستيراد للجمه (في فترة ما بعد 2011)، وهي التي تعيش في عجز في ميزان المدفوعات منذ بدء الحرب السورية. أيضًا عجزت الدولة عن محاربة التهريب الذي قضى على الدعم الذي تمّ إقراره من قبل حكومة الرئيس حسان دياب، مما أدّى إلى تبخّر ما لا يقل عن 15 مليار دولار أميركي.

- ثانيًا دين الدولة: المعروف أن معظم مداخيل الدولة كانت ولا تزال بالعملة المحلّية، وبالتالي في كلّ مرّة كان هناك استحقاق لدفع خدمة الدين، كان هذا الأمر يتمّ من خلال تحويل الليرة إلى دولار أميركي على سعر الـ 1500 ليرة لكل دولار، وهو ما أدّى إلى استنزاف الدولارات في السوق. مع العلم أنه وبحسب تقرير «بنك أوف أميركا – مريل لينش» من أصل 30.2 مليار دولار أميركي دين باليوروبوندز ، كان هناك 14.9 تأتي من المصارف التجارية، و3.5 من مصرف لبنان ، و11.8 مليار دولار لمستثمرين أجانب، مما يعني أن توزيع العائدات كان بالنسب نفسها. وبإعتقادنا تتحمّل الدولة مسؤولية سياستها المالية التي أدّت إلى تراكم العجز وتحوّله إلى دين عام وصل إلى أكثر من 95 مليار دولار أميركي.

- ثالثاً التحاويل إلى الخارج: أدّت استقالة الرئيس سعد الحريري في العام 2017 إلى خروج أكثر من 6 مليار دولار أميركي من لبنان. وتبعها بعد ذلك حركة تحويل كبيرة من الليرة إلى الدولار الأميركي، ونقل أموال إلى الخارج كنتيجة حتمية للواقع السياسي القائم آنذاك، وكنتيجة لإقرار سلسلة رتب ورواتب لم يكن لها تمويل كامل. وقبل اندلاع احتجاجات 17 تشرين 2019، كان تهريب الدولار عبر الحدود قائم على قدمِ وساق، من دون أن تعمد الحكومة إلى أي إجراء ميداني أو قانون أو إداري لمنع هذا الأمر. وبعد اندلاع الأزمة بدأ الطلب على التحاويل إلى الخارج بالازدياد، وتمّ الحديث عن مليارات من المصارف اللبنانية إلى المصارف الأجنبية خرجت بعد 17 تشرين، من دون أن تعمد الدولة إلى إقرار قانون «كابيتال كونترول»، وهو إجراء أساسي كان يجب القيام به ليس عشية 17 تشرين، بل عند اندلاع أحداث قبرشمون.

- رابعًا القطاع العام: بلغت أجور القطاع العام قبل الأزمة ما يوازي الـ 9 مليار دولار أميركي سنويًا. وهذا الرقم دعم الاستهلاك عبر الاستيراد، أي أن معظم هذه الأموال كانت تخرج من لبنان. وكل هذه الأموال كان يتمّ تحويلها إلى دولارات في السوق، وهو ما استنزف الدولارات في القطاع المصرفي. ولم يقتصر إنفاق القطاع العام بالعملة الصعبة على هذا الأمر، بل كانت الحصّة الكبرى للكهرباء التي كان مصرف لبنان يؤمّن لها الدولارات من السوق، مقابل مليار ونصف مليار ليرة سلفة ترد في قانون الموازنة، من دون أن تدخل في الموازنة. أيضًا أدّت الكلفة العالية للديبلوماسية اللبنانية والمحروقات للقطاع العام، إلى رفع وتيرة استنزاف الدولارات بشكل كبير ، كان يُقدّر بأكثر من 4 مليارات دولار أميركي سنويًا.

- خامسًا السحوبات: قام بها المودعون بعد الأزمة، والتي عرّت سيولة المصارف. هذه السحوبات جائت كردٍة فعل على الأزمة، التي بدأت بتهريب الدولارات عبر الحدود في آب وأيلول وتشرين الأول من العام 2019 ،وتعاظمت مع المخاوف مع إعلان حكومة حسان دياب وقف دفع سندات اليوروبوندز ، إذ يكفي النظر إلى تغيّرات الكتل النقدية في هذه الفترة للتأكدّ من هذا الأمر.

- سادسًا السياحة: كان يقوم بها اللبنانيون إلى الخارج، والتي كانت تموّل بمداخيل بالليرة اللبنانية يتمّ تحويلها إلى دولار أميركي في القطاع المصرفي. وقد بلغ هذا الإنفاق السياحي الخارجي عدّة مليارات من الدولارات سنويًا، كانت تذهب بالدرجة الأولى إلى مصر وتركيا وقبرص.

- سابعًا العمالة الأجنبية : كانت تحوّل ما لا يقل عن 5 مليارات دولار أميركي سنويًا إلى الخارج، مقابل 7 إلى 8 مليار دولار تحاويل المغتربين اللبنانيين إلى لبنان. وهنا نرى التقصير الفاقع للدولة التي كانت لترفع التكاليف على اليد العاملة الأجنبية.

- ثامنًا القروض الاستهلاكية للقطاع الخاص، والتي شجّعت الاستهلاك الخارجي عبر شراء السيارات وغيرها. وهذه القروض بلغت قبل الأزمة عتبة الستين مليار دولار أميركي.

بالطبع، قسم كبير من هذا الاستهلاك المفرط للدولارات، كانت تتمّ تغطيته من تحاويل المغتربين (15 مليار دولار منها 7.5 تحاويل إلى القطاع المصرفي والباقي سياحة إلى لبنان). أيضًا كان للودائع الخارجية في المصارف اللبنانية دورًا في تدعيم تدفقات الدولار إلى لبنان (فائدة عالية، سريّة مصرفية). أما التصدير فإن عائداته لم تكن تعود إلى لبنان بالكامل، بل ان قسمًا كبيرًا من هذه العائدات يقبع في حسابات خارجية.

الآن وبعد هذا العرض لاستهلاك الدولارات في لبنان، يجب معرفة أن كل اللاعبين الاقتصاديين استفادوا بشكلٍ أو بآخر مما كان يحصل، حتى الذين ينتقدون الأداء الماضي استفادوا من هذا الأمر (أقلّه من باب استهلاك الكهرباء). لذا كيف يجب توزيع المسؤوليات في هذا الأمر؟ الجواب بالطبع يكون بعد وضع أرقام على حجم كل قناة صُرف فيها دولارات. إلا أن هذا الأمر قد يأخذ وقتًا طويلًا لا يستطيع لبنان تحمّله. لذا ومن هذا المنطلق هناك طرح قد يؤدّي إلى عودة العمل بالقطاع المصرفي بدون الانتظار فترة طويلة، لكنه بحاجة إلى إعادة الثقة من قبل الدوّلة اللبنانية تحت طائلة فشله.

المُشكلة الأساسية التي تعيق إعطاء المودعين أموالهم هي مشكلة سيولة ، وبالتالي الاقتراح ينصّ على حلّ مشكلة المودعين من خلال اعادة تكوين الودائع لدى المصارف، من خلال الإجراءات التالية (بالطبع هذا الاقتراح بحاجة إلى ترجّمة بأرقام من قبل مصرف لبنان الذي يمتلك الأرقام الدقيقة):

- أولًا : كل مودع حالي يقوم بإيداع مبلغ فريش بالدولار الأميركي كوديعة لمدة ثلاث سنوات (فترة منطقية للخروج من النفق)، يتمّ تحرير مبلغ من أمواله (المحجوزة) في المصرف إلى وديعة جديدة تعتبر فريش، بشرط أن تبقى لمدة ثلاث سنوات أيضًا بعد هذا الإيداع. مما يعني أن المودع يمكنه سحب المبلغين (الموضوعة فريش والمحرّرة) بالدولار الأميركي بعد انتهاء مدّة الثلاث السنوات. ولعل المودعين الأكثر اهتمامًا بهذا الأمر ، هم المودعون الذين يمتلكون دخلًا في الخارج أو المغتربون أو الأجانب الذين لديهم مصلحة باستعادة ودائعهم بدون فوائد وبدون اقتطاع، حتى ولو تطلّب الأمر عدّة سنوات.

- ثانيًا : إنشاء صندوق يتوّلى إدارة أصول الدولة ، ويكون الضمانة الأساسية للمودعين، خصوصًا إذا تعثّرت المصارف بعد عملية الضخ، ويكون تشغيله من قبل شركات استثمار دوّلية (JP Morgan مثلًا) وبضمانة مفوضي رقابة دوليين ، وهو ما يمنع الفساد القائم اليوم في العديد من المرافق.

- ثالثًا : يمكن لأي مودع بعد هذه المدّة أن يحوّل وديعته إلى أسهم في المصرف، مع العلم أن القطاع المصرفي ومع فرضية الاستقرار السياسي في المنطقة، سيكون ذا ربحية عالية (إستخراج الغاز، إعادة إعمار سوريا...)، وقد لا يجدّ المستثمرون عائدات مثيلة له.

- رابعًا : التفاوض مع بعض المصارف الخليجية والأجنبية لإدخالها في رأس مال المصارف، وهو ما يدّعم الثقة ويعيدها إلى هذا القطاع.

بالطبع هذه الإجراءات تتطّلب التزامًا حكوميًا بعيدًا عن الحسابات السياسية، إذ ليس من مصلحة الحكومة ولا المودعين ولا الشعب إفلاس المصارف التي فقدوا الثقة بها، لأن إفلاسها يعني تطيير الودائع وسيقضي على الاقتصاد الرسمي بكل بساطة. بالطبع هذا الطرح لا يعني «التطنيش» عن الارتكابات التي حصلت، سواء من قبل مسؤولين أو مصرفيين أو مودعين.

في الختام، هذا الطرح (من بين طروحات أخرى سنقوم بها) هو لدعم الأفكار المتداولة حاليًا، خصوصًا بعد طلب رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي من أعضاء حكومته تحضير مقتراحاتهم لمناقشتها. وبالتالي هو من بين الطروحات التي تسمح بإعادة تكوين الودائع، عدم القضاء على القطاع المصرفي، دعم القطاع المصرفي بالعملة الصعبة، والاستفادة من أملاك الدولة التي يعتريها الفساد ويسيطر عليها.

الأكثر قراءة

طوفان الأجيال في أميركا