اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

د. منير الحايك

لقد قدّم عيسى ناصري في روايته "الفسيفسائي" (منشورات ميسكلياني 2023) عملًا روائيًّا كبيرًا، هكذا سأبدأ الحديث عن هذا النصّ، أي من النهاية، كما بدأ الكاتب نصّه من نهايته. فالعمل المشغول بهذا التعبِ وهذه الحرفية وهذه اللغة مع هذه المتعة التي يتوخّاها المتلقّي، لا بدّ من الحديث عنه بهذا الاختصار، وقد يجوز الاكتفاء بهذا الكلام دون الخوض في تفاصيل الرواية.

رواية طويلة، توحي صفحات الاستهلال بأنها بوليسية، ولكنها تبدأ بأخذك إلى حيرة تشدّك أحيانًا، وتربكك في أحيانٍ كثيرة، إلى أن تتمكّن من خيوط اللعبة الروائية، فتبدأ بربط الخيوط ببعضها البعض، وتعود مع كل تبدّل عنوان "ليالي وليلي" والفتى الموريّ" و"باخوس في العيادة" إلى صفحات سابقة لتتأكّد بأنّك بالفعل ما زلت تمسك بزمام النصّ، وتبدأ ببناء علاقات بين العناوين الثلاثة، تحملك تلك العلاقات إلى استباقات وتنبّؤات كثيرة، كانت من أهم غايات الكاتب في عمله هذا، وهي أن تكون الفسيفساء النصية لا تقتصر على ما كتبه جواد وأريادنا والدكتورة نوال، وبالتالي تهامي، وعيسى ناصري نفسه، بل ما توقّعه كلّ قارئ على حِدة، فيكون لكلّ منّا، قطعة فسيفساء فريدة أضافها إلى هذا النصّ البديع.

تبدأ الرواية باكتشاف، ما نعرف في نهاية الرواية بأنه من المحقّق بجريمة القتل التي تتحدث عنها الرواية، تفاصيل تلك الجريمة بين غلافي رواية صدرت حديثًا لكاتب مغربي، ومعه نبدأ قراءة الروايات/المخطوطات الثلاثة، لمؤلّفين ثلاثة، جواد الذي يكتب رواية تاريخية في أساسها تاريخ صناعة الفسيفساء المغربية بطلب من رجل أعمال، وأريادنا الأميركية التي تكتب رواية في أساسها الفسيفساء بالاعتماد على ما شاهدته في متحف أوروبي، ومذكرات الطبيبة النفسية نوال الهناوي، التي تحكي قصتَي عياش وتهامي، مريضيها النفسيين. ولكن ما العلاقة التي تجمع بين النصوص الثلاثة، هنا تكمن المتعة، والتشويق.

لعلّ أبرز ما ميّز كلّ نصّ منفردًا، أنّه يأخذ المتلقّي إلى حيث يريد من قَبل أن تتكشّف علاقات تهامي بالكتّاب الثلاثة وبالتالي نصوصهم التي سيسرقها، فالعودة إلى تاريخ حرفة مورية مغاربية كانت قضية منفصلة بذاتها، كتبها من أوهمتنا الرواية بأنه شخصية يكتب رواية، ومذكرات الطبيبة النفسية، التي تعلّقت بمريض فأحبته وأقامت علاقة معه، التي تحيلنا أيضًا إلى قضية الطب النفسي ومهمة الطبيب ومعايير نجاح مهمته، وخصوصًا في دول عالمنا العربي، أو العالم الثالث أو المشرق... بالإضافة إلى قضية سرقة الآثار، فالرواية تطرح الأمر بشكل واضح وفاضح، وتريد من كلّ المتلقين مشاركتها هذا الهمّ، مع عياش الذي قضى في سجنه 10 سنوات احتاج بعدها إلى علاج نفسي، وهو الحارس الذي أقرّ بالتواطؤ والسرقة تحت التعذيب، سرقة باخوس، الذي كان لرمزيته، بوصفه المسروق، وبوصفه تهامي نفسه من خلال لقبه، من العمقِ الكثير.

أمّا ليالي وليلي، والتي تبدأ معها الرواية وتنهتي بها، قبل إضافات تهامي والمحقق، فهي النصّ الروائي الأصيل، حيث الروائية الباحثة، حول الآثار والفسيفساء، وما تكتشفه بمساعدة صديقها جواد، من علاقات فسيفساء أوروبا وفسيفساء الغرفة والفسيفساء المُكتَشفة، والتي تُسرَق أيضًا. (وهنا يأتي وجود ابن عياش في الموقع، بوصفه موظّفًا، من المآخذ على النصّ، فقد كانت مبتذلة، على الرغم من مرور هذه الشخصية بشكل عرضيّ). اكتشافات أريادنا، وحبك العلاقات، لم تقتصر على الفسيفساء، بل تعدّتها إلى الفسيفسائي نفسه، تهامي الذي سرق نصّ جواد الروائي، والتي بتوثيق اكتشافاتها كان مصيرها الموت، فتكون رمزية البحث والتقصّي والاكتشاف في بلادنا، وإن كانت من خلال شخصية أجنبية، مصيرها الموت والقتل، فكأن النصّ يريد القول، إنّ البحث وكشف الحقائق التي لا يُراد اكتشافها في بلادنا، أمر ما زال الوصول إليه بعيدًا، وهذا مصير الساعين إليه.

أزمات تهامي النفسية لم تعطِها الرواية مساحات طويلة، وهو أمر بديهي، فهو لم يقم سوى بجمع المخطوطات وكتابة بعض الإضافات ونشر النصّ النهائي، ولكن إشارات النصّ إلى علاقته بوالده، وتسببه بموت ابنه سامي، كانت، وعلى الرغم من مرورها السريع، تعطي المتلقّي أطراف خيوط تريده أن يفكّر فيها، ولكن خارج إطارها هي بذاتها.

المأخذ الأبرز على الرواية، هو ما كشفه تهامي في نهاية الرواية، في بعض مقاطع "ملحق الفسيفسائي"، فقد جاءت الكثير من الحلول ومن أوصاف الشخصيات ومن العلاقات، بأن شَرَحَها تهامي للقارئ في ذلك المقطع، وعلى الرغم من تبرير بعض الكتّاب بأنهم يعيدون ربط العناصر والحبكات المتعددة لمساعدة المتلقي، إلا أنّ المتلقي هنا، وفي هذه المرحلة تحديدًا من القراءة، كان قد أمسك بزمام النصّ وربط كل تفاصيله... وقد يكون رجوع الكاتب أحيانًا إلى هذه الشروح لعدم ثقته المطلقة بالمتلقين، أو فلنقل ببعض هؤلاء المتلقّين، فيجيب عن تساؤلات هي حقّ لهذا المتلقي بأن يكتشفها.

لقد ذكرت في البداية إن نصًّا تعب كاتبه عليه، في البحث والتخطيط والحبكة، كان من المتوقّع أن تكون إحدى ركائزه أقلّ جودة من الأخرى، ولكن عذوبة اللغة وصحّتها، وسلاسة الأسلوب وجدّته، وبناء الشخصيات وتطوّرها، بالشكل الذي تنتظره من نصّ روائي حديث، كانت بجودة العناصر الأخرى، وأكثر. أما أبرز نقاط قوّة النصّ، تكمن في علاقات هذه العناصر، وخصوصًا علاقاتها بالمكان، وبالزمان، الذي أرّخه بتفاصيل تواريخ أيامه حتى، ليكون العنوان "الفسيفسائي"، الـمُشار إليه بأنه "تهامي" في النصّ، دالًّا على الفسيفسائي الأبرع والحرفيّ الأمهر والروائيّ الكبير، عيسى ناصري نفسه. 

الأكثر قراءة

ماذا يجري في سجن رومية؟ تصفيات إسلاميّة ــ إسلاميّة أم أحداث فرديّة وصدف؟ معراب في دار الفتوى والبياضة في الديمان... شخصيّة لبنانيّة على خط واشنطن وطهران