اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

العنوان وحده كافٍ لأنْ يستوقفك مُستنفَرًا للتأمّل بكل هذا المصاب به لبنان دولةً ومجتمعًا، ما انفكّتِ الويلاتُ رفيقةَ دربه، أقلّه منذ اعلانه دولةً "مُستقلّةً"، الى ما يعانيه من قلّةٍ في كل شيء في أيامنا الأخيرة. أتراها اياما اخيرة؟ "حرب المجتمع على نفسه"، تقول بطاقة الدعوة فأسمعني سائلاً: أيصحّ أنّه مجتمعٌ، وهو لم يستوفِ شروطَ وعيِه ذاته؟

حين تلقّيتُ الدعوة الى المشاركة في ندوة تحت هذا العنوان، عادت بي الذاكرة الى اربعة وثلاثين انطوتْ. وفي جولة الذاكرة حول هذاك الزمن، برز الموضوع نفسه عنوانا فرعيّا في محاضرة كثيفة المغازي. محاضرة كان أعدّها ليلقيها في احدى جامعات انكلترا سنة 1990، المُجيدُ قراءةَ علامات الأزمنة المفكّرُ الاستشرافي يوسف الأشقر. وكان من الحسن والمفيد حين أُرجئت، أن ضمّها كتابُه "السلم الاسرائيلي والحرب اللبنانية"، الصادر عن دار فكر في السنة عينها. ولولا أنّ حرب المجتمع على نفسه ما زالت مستمرّة بصيَغٍ متنوّعة ومتجدّدة، وبضراوة قلّ مثيلها، لقلنا انّ يوسف الأشقر لم يترك في محاضرته القيّمة تلك، مزيداً لمستزيد من بعده.

ولست أرى في استعادة العنوان اليوم الّا انّ المقصود به لبنانُ نموذجاً. فما يجري فيه ينسحب، وان بتفاوت في الأساليب، على سائر كيانات الهلال الخصيب بأحزانه، جرّاء حروب الاَخرين عليه مشفوعة بحروبه على نفسه.

وعليه، فالاضاءة على سياق حرب المجتمع على نفسه في لبنان تُسهم بالضرورة، في الاضاءة على ظلمات ما يعانيه في المصير سواه.

أمَا وادارةُ الشرّ المنظّم المشرفة من الخارج على ادارة حرب المجتمع على نفسه عندنا، جاهدة في تطوير وسائلها والعدّةَ والعتاد. فعلينا، كبقايا معنيين لا يقصدون في الحياة لعِبا، علينا التسلّح اقلّه بمزيدٍ من الحيطة والحذر في قراءة الاحداث، وما يرافقها من دعوات وندوات الناهين عن المُنكَر المرتكبين له.

فحرب المجتمع على نفسه جبهاتها اكثر، تعقيداتها أشدّ وأدقّ من أيّ حرب خارجية تقليدية، قد يضطر المجتمع الى مواجهتها في صراعه من اجل البقاء والارتقاء. انّ أيَّ عدوٍّ مكشوفٍ معروف هو أقلّ خطراً، مهما عظم جبروته من أيّ عدوّ في الداخل، يتزيّا زيَّ الدفاع عن المجتمع وعن سلمه وسلامته. "فاحذروا الذين يأتونكم بثياب الحملان وداخلُهم ذئابٌ خاطفة".

ومن قبلُ ومن بعدُ، ماذا يعني لنا أنّ ما كان تعبيرا صالحا وصحيحاً، عن واقع عانيناه منذ اربعة وثلاثين عاما ما زال هو ايّاه تعبيرا صالحا وصحيحا في توصيف ما نعانيه اليوم، وما سنعانيه في غدٍ؟ انّ أملاً ما كان المجتمع أو بعضُه يعقده على الذين تعاقدوا على امرٍ يساوي وجودهم، أن يتصدوا هم قبل سواهم لمثل حرب المجتمع على نفسه، انّ هذا الأمل خاب او قارب النفاد.

السؤال الذي يقضّ راحة البال في كل حال: هل نجحت "ادارة الشرّ المنظّم" في الخارج وفي الداخل، في استدراج حرّاس المجتمع، مستغّلةً أمراضاً وأغراضاً لدى ذوي النزعات الفردية، الى الوقوع في فخّ حرب الحرّاس على أنفسهم؟

والغفلة المستمرة تضاعف الخشيةَ من ان ينجح المشرفون على ادارة الحرب علينا من الخارج في تحقيق اهدافهم، التي ليس أقلّها زعزعة البنيان بمخزونه القيَمي، بل اندحارنا دولةً ومجتمعاً تمهيدا لانحلال الدولة واندثار المجتمع...

العناوين في حربنا الضروس، وفي تطوّر الخداع، ما عادت تنسجم مع المضامين. والمكتوب في مثل حالنا، لا يُقرَأُ دائما من عنوانه. الحربُ منّا أو من سوانا علينا جارية ومستمرٍة "وفق خطّة نظاميّة". وليس نجاحها مستغرَباً الّا بالقدْر الذي يُستغرَبُ فيه تلكّؤُنا عن القيام بخطّة نظاميّة معاكسة. وانّها لَمناسبةٌ أن ندعو الجهةَ الداعيةَ الى ندوة "حرب المجتمع على نفسه" الى استكمال المتوخّى منها بدعوة الى ندوة حول أسباب فشل قيام الخطّة المعاكسة، خطةً تضع حدّا لحرب المجتمع على نفسه، وتوقف جنازة في موكب التاريخ.

الأكثر قراءة

بعد كارثة غولاني... تل ابيب و194 مستوطنة في الملاجىء لغز «الشبح» يحير اسرائيل... ونتانياهو يهدد بيروت و«اليونيفيل» «ضوء اخضر» اميركي وتحذيرات من الهدوء الخادع في الضاحية