اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تحاول إدارة بايدن جاهدة في الأسابيع الأخيرة الوصول الى اتفاق بشأن غزة في المفاوضات غير المباشرة بين كيان العدو والمقاومة الفلسطينية، لأسباب انتخابية أميركية بشكل أساسي وليس من منطلق انساني لوقف الإبادة التي يرتكبها نتنياهو في غزة، خاصة بعد الدعم المفتوح له على مدى الأشهر الثمانية السابقة. ويحاول الأميركي من جهة استغلال فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه المعلنة وعلى رأسها القضاء على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، ومن جهة أخرى تسويق حلول يقبل بها نتنياهو وتؤمن له الخروج الآمن من الحرب.

وكلما اقترب موعد الانتخابات الأميركية، كلما اضطرت إدارة بايدن الى اتخاذ المزيد من المواقف التي تتمايز ولو شكليا، عن مواقف نتنياهو، مثل عرقلة تزويد اسرائيل ببعض الأسلحة الاميركية، أو سحب الوزراء المحسوبين على الإدارة الأميركية من حكومة نتنياهو، أو مطالبته بوقف الحرب في غزة، ولو بخجل أو مكر. في المقابل، يحاول نتنياهو استخدام ورقة تأثير اللوبي اليهودي في الانتخابات الأميركية القادمة، وخاصة بعد تلقيه دعوة من قبل الجمهوريين للتحدث أمام الكونغرس في أواخر شهر تموز المقبل.

وهذا يعطي ادارة بايدن شهراً اضافياً لمحاولة إحداث اختراق في موضوع غزة، بما في ذلك طرح خطة بايدن للحل، والتي رد عليها السيّد اليوم، بأنها فيها عيبا مكشوفا، هو عدم ضمانها لوقف الحرب، وهي تعني سلب إحدى نقاط قوة حماس المتمثلة بتسليم عدد كبير من الأسرى خلال المرحلة الأولى، ومن ثم التفاوض على الخطوات التالية، مما يتيح لنتنياهو العودة الى استئناف الحرب بعد ذلك بحجة تحقيق النصر الكامل وتدمير حماس. والسيّد بالتالي برّر رفض حماس لخطة بايدن في ظل رفض نتنياهو لوقف دائم للحرب.

كما حاول بايدن، بالتوازي مع خطته التي يعتريها هذا "العيب المكشوف"، أن يقدّم لنتنياهو عدداً من المغريات الإضافية. إحداها مسألة التطبيع مع السعودية، التي قطعت شوطا كبيراً، لولا اشتراط السعودية بقبول اسرائيل بحل الدولتين، وهو ما يرفضه نتنياهو واليمين الاسرائيلي بشكل قاطع..

الإغراء الآخر لنتنياهو هو وقف حرب المساندة المتدحرجة التي يقوم بها حزب الله في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، فور التوصل الى وقف اطلاق نار في غزة. وقد تجلى ذلك خلال الزيارة السابقة للموفد الرئاسي الاميركي هوكستين الى بيروت، حين قال أنه لن يعود الى المنطقة الا بعد وقف النار في غزة. وهذا كان اقتناعا اميركيا باستحالة وقف هذه الحرب قبل وقف النار في غزة. غير أن هوكستين عاد مؤخراً، وخاصة بعد التصعيد الحاصل في هذه الحرب، الى القدس حيث التقى نتنياهو، الذي طلب منه وقف حرب حزب الله. فرد عليه هوكستين أن هذا غير ممكن سوى عند وقف النار في غزة. فاستشاط نتنياهو غضبا وصعّد تهديده بحرب شاملة على لبنان، وطلب اليه أن يسعى حزب الله الى اقناع حماس بالقبول بمبادرة بايدن! فجاءه الرد المباشر في كلمة السيد، بكشف العيب الذي تتضمنه هذه الخطة، مع التأكيد أن القرار هو عند المقاومة الفلسطينية وليس عند حزب الله، وهي التي تقدّر الموقف.

وحول موضوع الحرب الشاملة ضد لبنان، كان السيد منذ اسبوعين قد توجه الى الاسرائيلي بالقول: خبيبي، بأي جيش ستهاجم لبنان؟ وجيشك منهك في غزة؟

لذلك، عندما جاء هوكستين الى بيروت هذا الأسبوع، لتبليغ التهديد الاسرائيلي الى الحكومة اللبنانية، جاء رد حزب الله بنشر صور الهدهد، وثم كلمة امينه العام، التي أوضح فيها جهوزية المقاومة في لبنان على كافة المستويات العسكرية والتسليحية والشعبية في البيئة الحاضنة، لخوض حرب برية وجوية وبحرية، تؤدي الى اقتحام الجليل وتدمير البنية التحتية المدنية والعسكرية في كيان العدو، وضرب الملاحة في البحر الأبيض المتوسط، وبالطبع، لمّح بشكل غير مباشر الى ضرب منصّات الغاز، عندما قال أن المقاومة ستحارب عندها بدون ضوابط أو قواعد. وهو ما يشكل ضربة استراتيجية لم يعلن عنها الحزب بعد بشكل مباشر كونه ما زال ملتزماً بالقواعد والضوابط التي يعرفها الأميركي وغيره.

كما أكد السيّد ما قاله هوكستين لنتنياهو، ان المفتاح هو وقف الحرب في غزة. واعتبر أن رفض حماس لخطة بايدن هو أمر طبيعي ومتوقع، بسبب عدم حسمها لمسألة وقف حرب الإبادة في غزة. ولم يبرئ ادارة بايدن من المشاركة الكاملة في هذه الحرب الى جانب العدو، برغم التمايز المستجد بين الطرفين. وحذّر قبرص من مغبّة المشاركة بالحرب على لبنان من خلال فتح مطاراتها للطائرات الإسرائيلية، فردّ الرئيس القبرصي مؤكداً أن قبرص هي جزء من الحل في المنطقة ولن تشارك بأي شكل من أشكال الحرب.

فمن الناحية الدبلوماسية، تكتسب مواقف السيد نصرالله، معطوفة على تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر، أهمية كبيرة تستفيد منها إدارة بايدن لمحاولة المزيد من الضغط على نتنياهو، في ظل تصريحات أميركية رسمية بأن توسيع الحرب على لبنان لن تكون لمصلحة اسرائيل. والمساحة الزمنية تضيق أمام إدارة بايدن، فيما يحاول نتنياهو المراوغة وتقطيع الوقت، الى أن يحين موعد زيارته الى الكونغرس وتمرير الانتخابات الأميركية بدون تنازلات من قبله. وبنفس الوقت، تحاول إدارة بايدن الضغط على حماس، من خلال حلفائها العرب، وتقديم الضمانات، للقبول بمبادرة بايدن، التي تعتبر أنها أقصى ما يمكن أن يوافق عليه نتنياهو، مع بعض الضمانات الإضافية الأميركية.

في المقابل، وبعد المواقف الأميركية الداعمة بشكل مخزٍ لاسرائيل منذ 7 اكتوبر، لا يعتبر محور المقاومة نفسه ملزماً بتسليف بايدن الكثير من المواقف التي تعزز من حظوظه الرئاسية، بغض النظر عن قدرة المحور على التأثير المباشر أو غير المباشر على نتائج الانتخابات الأميركية. ولو أن مواقف السيد قد تستفيد منها إدارة بايدن للمزيد من الضغط على نتنياهو لتحقيق اختراق ما في وقف النار في غزة، والتي ستعتبرها حملة بايدن الانتخابية، إنجازاً تاريخيا.

وما يعقّد المشهد أيضا، مواقف ترامب، الذي اتهم بايدن بأنه يقف مع حماس، إثر إعلانه عن مبادرته بشأن غزة. وبنفس الوقت، تزايدت تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي، المحذرة من وصول ترامب الى رئاسة أميركا، لأن ذلك سيؤدي بحسب رأيه الى هزيمة أوكرانيا ووقف الدعم الأميركي لها، بسبب صداقة ترامب مع بوتين. وهذا الموقف يشكل صدى لمواقف بعض قادة الناتو وعدد من القادة الأوروبيين، وهو متناقض مع توجهات نتنياهو.

في الخلاصة، على المستوى المحلي، تهديدات اسرائيل بشن حرب على لبنان، لا تحظى بدعم وتبني أميركي حاليا قبل الانتخابات الأميركية، وإن قامت بها منفردة ستكون نتائجها كارثية عليها، بسبب وقائع الميدان، كما صرح العديد من المسؤولين الأميركيين وحتى الاسرائيليين. مع أن بعض الأطراف اللبنانية والعربية ذات الهوى الغربي، تراهن على حرب واسعة تقوم بها اسرائيل وتتخلص ليس فقط من حماس، بل أيضا من حزب الله، ويمنّون النفس ويصرّحون بقرب نهاية حزب الله، وعودتهم هم للسيطرة على مفاصل الدولة اللبنانية. وهذه على ما يبدو أضغاث أحلام لا تقل عن أوهام نتنياهو بالنصر المؤكد... وفي غزة، من المستحيل تحقيق نصر كامل كما يدعي نتنياهو، وهو ما صرح به اليوم الناطق باسم جيش العدو، موجها انتقادات مباشرة الى نتنياهو، الذي رد على الفور مؤكدا ان على الجيش تنفيذ القرار السياسي. وهو يراهن على الوقت للتملص من أية حلول تفرض عليه وقف الحرب دون تحقيق أي نصر حقيقي أو وهمي يستطيع اقناع جمهوره به، حتى لو اضطر خوض معركة دعم ترامب علناً، للتخلص من حاجة بايدن لحل في غزة، في ظل رفض المقاومة للحلول المشبوهة المبهمة.

وعلى المستوى الاقليمي، حلفاء أميركا من العرب، غير جاهزين للانخراط مع إدارة بايدن في سياساتها، اولا خوفا من فوز ترامب، وثانيا بسبب تعنت نتنياهو واليمين الاسرائيلي في رفض حل الدولتين، الذي هو الحد الأدنى المطلوب من قبلهم لإقناع شعوبهم بالتطبيع مع كيان العدو. وإيران ومحور المقاومة، لا يميزون كثيرا بين بايدن وترامب، ولا يثقون بالسياسة الأميركية، ولا يريدون المخاطرة باتفاقيات مع الديمقراطيين في ظل وجود امكانية فوز ترامب، مع عدم ممانعة استفادة إدارة بايدن من التصعيد في اليمن ولبنان للمزيد من الضغط على نتنياهو، إن كان ذلك مفيداً لها في معركة الانتخابات الأميركية.

وأيه تسوية واسعة في المنطقة بحاجة الى قيام نظام اقليمي جديد يتم فيه توزيع النفوذ بين القوى الاقليمية الكبيرة، ولا احد مستعجل على ذلك حاليا، خاصة في ظل الصمود الأسطوري للشعب والمقاومة في غزة، والانجازات التي تحققها جبهات الاسناد، خاصة في لبنان واليمن، والتي تراكم من نقاط القوة التي تصرف لاحقاً في أية مفاوضات لتوزيع النفوذ.

وعالميا، فريق كبير من الاوروبيين يفضلون بايدن على ترامب، فيما بوتين قد يكون يفضل ترامب، ولكنه يعي أن المعركة مع أميركا لها طابع استراتيجي يتعلق بالتعددية القطبية، بغض النظر عن نتائج الانتخابات الأميركية. وهو يقوم بتعزيز العلاقات مع الصين والهند وإيران والدول الآسيوية ودول البريكس، من أجل التحضير لمرحلة قادمة تؤسس لتوازنات جديدة مع الغرب. وهو يعتبر أن حرب غزة كانت ردّاً استراتيجياً على حرب أوكرانيا وحصار روسيا، مع أنه قد يلتقي بالمصالح مع نتنياهو لجهة نتائج الانتخابات الأميركية.

وبذلك تكتسب مواقف أمين عام حزب الله اليوم، أهمية كبيرة لتأثيرها على تطورات الأحداث، لجهة ردع العدو والرد على تهديداته والتأكيد على قوة وجهوزية المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى ترسيخ مواقف ووقائع مستجدة تستطيع إدارة بايدن أن تستفيد منها للمزيد من الضغط على نتنياهو خلال فسحة الشهر المتبقية، من أجل تطوير مبادرة بايدن الى مستوى يمكن القبول به من قبل الطرف الفلسطيني، من خلال تضمينها لوقف دائم أو طويل الأمد لإطلاق النار في غزة، مع ضمانات أميركية وعربية... عدا عن ذلك، الكلام للميدان!

الأكثر قراءة

من الكهوف الى الملاهي الليلية