اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

علّمني الدهرُ، ومنذ ما قبل مرحلة القهر الأخير، أن أقسى ما يمكن ان يتعرّض له مواطنٌ من عقاب في كرامته، هو اضطراره ان يتابع انجاز معاملة له في أيّ من الدوائر المعروفة بأنّها موّارةٌ بالمفاسد.

ما لنا ولما يطول شرحُه، خلِّنا بمختصرٍ مفيدٍ، بعبرةٍ لا يعيدُ فيها واحدُنا الدخول في تجارب الشرّير من جديد. فاذا ابتلتك ظروف الحياة بمثل ما عاودتْ ابتلائي به منذ أيام، من وجوب الحضور الى دائرة رسميّة ما لانجاز معاملة لا يحتمل انجازُها الارجاء، فما عليك الّا الاستعانة بالصبر وبالصلاة اذا كنت لا تزال ثابتا على الايمان...

أمسِ، لا أمسيتَ على قرفٍ جديد ولا حزنٍ مثله، كان عليّ الحضورُ الى احدى الدوائر فحضرت على قاعدة "مُكرَهٌ أخوكَ لا بطلُ". وفوجئتُ بتوصيةٍ تسبقني الى هناك، على ما أبلغني الموظَّفُ المعتاد على استقبال التوصيات من "خواجات" وبكواتٍ ومرجعيّات. أمّا التوصيةُ بي التي لا تزال موضوع مفاجأة عندي، فهي من جهة لا علاقةَ لي بها، لا من قريبٍ بالتأكيد، ولا من بعيدٍ على ما اعتقد أو أظنّ. يبقى الى اشعار اَخر، سرّها عند من تلقّاها "على الراس والعين"، فعاملني وكأنّني من الأعيان.

ومع كلّ ذلك، كان عليّ ان لا اخالف شريعة الفساد وناموسه ولو بالحدّ الادنى: حدّ شراء طابع مالي ضروري لانجاز المعاملة، ممّا جرى التعارف عليه بالسوق السوداء. أو ليست التوصية عينها، لو صحّ انّ ثمّة توصية ما، هي من تجليّات السوق السوداء. ليس هو الطابع وحده ما يجري بيعه وشراؤه في السوق السوداء في الدولة الدائلة، في الدولة الزائلة. الدولة من اعلى رؤوسها التنّينيّة حتى أخامصها هي سوق سوداء، بكلّ ما نسمعه عن اجراءات لا تبصر النور وبكل ارجاءات يُلهون الناس بأخبارها.

انّ دولةً لا تنتظر منها أن تقوى على حلّ مشكلة الطابع الرسمي في دوائرها، هي دولة تنتظر من يعلن نعيَّها، وليست تنتظر بالتأكيد من يبكيها أو يتقبّل بموتها العزاء. هي دولةٌ باتت وماتت بلا أهل وبلا أقرباء، قل بلا رجاءٍ بقيامتها من قبر حفره لها فاسدوها واليه حملوها. دفنوها وما همّهم أنّ أحداً لم يقرأ على روحها فاتحةَ ارحمها يا رب، وما همّهم انّهم لم يجدوا من يتلو على نفسها صلاة الغائب. لن تكون من بعدُ دولةّ أيُّها الناس، ما لم تشعلوها نارا تأكل كلَّ هذا اليباس. ولا تبقى من بعد حاجة الى طابع فساد لانجاز المعاملة. 

الأكثر قراءة

الضفة الغربيّة... إن انفجرت