اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

بلغت تقديرات البنك الدولي لحجم اقتصاد «الكاش» في لبنان 55% من الناتج المحلّي. بالطبع للوصول الى هذه التقديرات، يتم احتساب كل العمليات التجارية في الاقتصاد، ويتمّ تقدير نسبة التعاملات بـ «الكاش» على أنها المُتبقّي للوصول إلى الناتج المحلّي الإجمالي. إلا أن هذا الرقم الذي يحمل مصداقية مؤسسة دولية كالبنك الدولي، لا يذكر أن نسبة التعاملات في السوق التي يقوم بها المواطن والشركات فيما بينهم تفوق الـ 90%. ويبقى السؤال، إذا كان يتمّ اعتبار شركات تحويل الأموال على أنها ضمن اقتصاد «الكاش» أمّ لا ، خصوصًا أن ما يسمّى بـ «الكاش» يمكن حصره بقدرة الفرد أو الشركة على تبرير مصدر الأموال.

عمليا، كل العمليات التي يتمّ القيام بها في لبنان على كل المستويات الاقتصادية والضرائبية وغيرها مصدرها «الكاش»، سواء كان هذا الأخير مُبرّرا (مثلًا «كاش» تمّ سحبه في مرحلة سابقة من الحساب المصرفي) أم لا (لا قدرة للّاعب الاقتصادي على تبرير المصدر). ولكن بفرضية أننا احتسبنا نسبة اقتصاد «الكاش» 55% كما قدّره البنك الدولي، فإن هذا الرقم يشكل ما يوازي 12.7 مليار دولار أميركي تمرّ تحت أنف وزارة المال، التي لا يمكنها تقاضي الضرائب عليها، بحكم أن المعنيين لا يُصرّحون عن عمليات «الكاش»، إلا التي تتطلّب تسجيلا في الدولة (شقّة أو سيارة...)، وفي هذه الحال يتمّ تسجيل العملية على سعر أقلّ من السعر الحقيقي.

من هذا المنطّلق، تخسر خزينة الدوّلة أموالا طائلة تُقارب ملياري دولار أميركي سنويا بحسب تقديراتنا، وهو ما يشكّل ضغطا كبيرا على مالية الدّولة التي التجأت إلى رفع الضرائب على الاقتصاد الشرعي، لسدّ حاجاتها وحاجات القطاع العام، مع ما لذلك من ضرر على النمو الاقتصادي.

هذه الخسائر ناتجة بالطبع من اقتصاد «الكاش» الذي تفشّى كنتيجة طبيعية لغياب القطاع المصرفي وقلّة الثقة به، ولكن أيضا بسبب غياب الرقابة وعدم قدرة مؤسسات الدولة على ملاحقة المخالفين، وتمتّع بعض هؤلاء بحميات سياسية. وإذا كان حاكم المصرفي المركزي بالإنابة وسيم منصوري، الذي سيزور واشنطن في الأيام المقبلة، سيسعى إلى عدم وضع لبنان على اللائحة الرمادية كنتيجة حتمية لاقتصاد «الكاش»، إلا أن التوقّعات أن ينجح في مهمّته ضئيلة، من منطلق أن نسبة «الكاش» إلى الناتج المحلّي الإجمالي من الأعلى عالميا بشكلٍ لا يمكن التغاضي عنه، ومن منطلق أن بعض الدول الخارجية قد تستخدم ورقة «اللائحة الرمادية» للضغط على لبنان سياسيا، سواء في ملف الصراع القائم مع العدو الإسرائيلي أو في ملف النازحين السوريين.

ولكن ماذا يملك حاكم المصرفي المركزي بالإنابة من حجج لتأجيل وضع لبنان على اللائحة الرمادية؟ التحاليل تُشير إلى أن طروحاته ستتمحور حول تشغيل منصة «بلومبرغ»، وحول بعض الإجراءات الإدارية (من قبل المركزي). على هذا الصعيد، يمكن القول إن وضع منصّة «بلومبرغ»، التي تتمتّع بشفافية ومصداقية عالية»، قيد العمل لن يؤدّي إلى تقليص حجم السوق غير الرسمي بالدولار لسببين:

- الأول: مصدر الأموال، حيث إن المخالف لن يقوم بشراء أو بيع الدولارات على منصّة صيرفة، خوفا من تسجيل اسمه على المنصّة، وهو ما سيؤدّي حكما إلى اتهامه بتبييض الأموال في حال عجز عن تبرير مصدر الأموال. ولكن أيضا لا مصلحة للشخص أو الشركة التي تستطيع تبرير مصدر الأموال من استخدام المنصّة، بحكم أن المعلومات ستصبح بيد مديرية الضرائب في وزارة المال، وهو ما سيُعرّضهم للملاحقة إذا كانوا مخالفين.

الثاني: هو الكلفة التي ستنجم عن استخدام منصة «بلومبرغ»، حيث ان العمولات التي ستقبضها الشركات الوسيطة ستكون أعلى مما يتقاضاه الصراف على زاوية الشارع. وهو ما يعني أن معظم اللاعبين الاقتصاديين سيقاطعون هذه المنصّة. في الواقع لا يمكن لهذه المنصّة أن تنجح، إلا إذا تمّت إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتمّ وضع إجراءات حكومية لمحاربة اقتصاد «الكاش».

أمّا في ما يخص الإجراءات الإدارية الأخرى التي سيطرحها حاكم المصرفي المركزي بالإنابة، فهي تتمحّور حول تفعيل التسليف من قبل القطاع المصرفي، الوحيد القادر على تطبيق إجراءات الامتثال، وحول تطبيق القانون 44/2015 الذي يمكن أن يتمّ تحريكه من قبل وحدة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان.

في ما يخصّ عمليات التسليف، لا يمكن تطبيق هذا الأمر إلا من خلال قانون يتم التصويت عليه في المجلس النيابي، ويُلزم ردّ القروض من الدولارات الطازجة بدولارات طازجة. الجدير ذكره أن القضاء اللبناني ألزم المصارف اللبنانية بقبول سدّ قروض بالدولار الأميركي بالليرة اللبنانية على سعر صرف مختلف عن السوق السوداء في مرحلة سابقة. أما في ما يخص تطبيق القانون 44/2015، فعلى الرغم من قدرة المصرف المركزي من خلال وحدة التحقيق الخاصة من تفعيل الملاحقات، فإن مثل هذه الإجراءات لا تتمّتع بغطاء سياسي، وبالتالي لن تصل إلى نتيجة.

الجدير ذكره، أن القانون 44/2015 هو قانون يتمحّور حول مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وقد ورد في مادته الأولى 21 نشاط ينتج منه أموال غير مشروعة، وكُلّفت هيئة التحقيق الخاص ملاحقة المشتبه فيهم من خلال آلية واضحة.

إذًا ومما تقدّم، نرى أن اقتصاد «الكاش» شقّ طريقه ليصبح أكبر من الاقتصاد الرسمي. وهذا الاقتصاد، أي اقتصاد «الكاش»، يحوي على عمليات مخالفة من ناحية مصدر الأموال (مشروعة أو غير مشروعة). فهل سيكون هناك من قدرة للمصرف المركزي بدون أي مؤازرة حكومية أو نيابية، على تصغير حجم اقتصاد «الكاش»، وإعفاء لبنان من كابوس اللائحة السوداء؟ الاحتمالات ضئيلة، ولكن لننتظر ونر ما سيحصل في أوائل أيلول المقبل، موعد خروج نتائج تصنيف مجموعة العمل المالي الدولية.

الأكثر قراءة

بري لن يُهدي جعجع لقب "البطل"!...