اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في بلد لا يعرف الهدوء، وفي زمن تتراكم فيه الكوارث واحدة تلو الأخرى، تلوح في الأفق "قنبلة موقوتة" تهدد حياة الآلاف، مخبأة تحت ركام الفوضى والإهمال. وسط انشغال اللبنانيين بصراعهم اليومي مع الأزمات الأمنية، وتحت وطأة الحرب على الجنوب والتوتر المستمر مع إسرائيل، تأتي هذه القصة لتزيد من معاناتهم، كأن الحياة في لبنان لا تكفيها مآسيها اليومية. فما الذي يحدث في منطقة الدورة؟ ولماذا تتكرر سيناريوهات الكوارث في بلد يتلاعب به حكامه؟

لن ينسى اللبنانيون ذاك اليوم الأسود من عام 1989، حين هزّ انفجار الدورة البلاد، مخلّفًا دمارًا شبهه البعض بـ"انفجار نووي صغير". وما زالت هذه الذكرى المؤلمة حاضرة في أذهان من عاشوها، ومع مرور السنوات، جاء انفجار الرابع من آب ليضيف جرحًا جديدًا في جسد الوطن المثخن بالجراح. كما أن انفجار المرفأ قتل المئات وشرد الآلاف، وترك وراءه جروحًا لم تلتئم بعد، وذكرى تؤلم كل لبناني يعيش في وطن يعاني من غياب العدالة.

ولكن، حتى بعد هذه المآسي، لا يزال اللبنانيون يعيشون في خوفٍ دائم من كارثة أخرى تلوح في الأفق. وبينما يواجهون الهزات الأرضية المتكررة التي أصبحت جزءًا من يومياتهم، باتوا يهربون إلى الشوارع مع كل اهتزازة بحثًا عن الأمان، بعدما فقدوا الثقة في أن تكون بيوتهم ملاذًا آمنًا. وكأن الحروب التي لا تنتهي، وآخرها الحرب على الجنوب والتوتر الدائم مع إسرائيل، ليست كافية ليأتي هذا الخطر الجديد ليهدد حياتهم.

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالخوف والترقب، تتكشف فصول قصة جديدة من الإهمال والفوضى. فوزير الصناعة جورج بوشكيان وقع على ترخيص لشركة "Unigaz" في منطقة الدورة، مخالفًا بذلك رأي لجنة وزارته وقرارات مجلس شورى الدولة رقم 413-2021-2022، ودون إجراء دراسة الأثر البيئي المطلوبة. فكيف يمكن لهذا القرار أن يُتخذ في ظل هذه الظروف؟ وهل نحن على وشك رؤية كارثة جديدة في بلد لا يزال يئن تحت وطأة جراح الماضي؟

نعود إلى عام 2017، عندما حصلت شركة "Unigaz" على رخصة من وزارة الصناعة لاستبدال الخزانات الأفقية القديمة بأخرى جديدة، وذلك بموافقة وزارة الطاقة التي سمحت بإنشاء خزانين كبيرين سعة كل منهما 5060 مترًا مكعبًا من الغاز المضغوط. لكن، ومع مرور الوقت، اكتشف السكان وأصحاب الشركات المجاورة أن حجم الخزانات الجديدة يتجاوز بكثير حجم الخزانات القديمة، في مخالفة صريحة للرخصة الرسمية. هذه الخزانات، التي تعادل حجمها 8 طبقات وتتسع لحوالي 7 أطنان من الغاز، أثارت ذعر الأهالي، الذين بدأوا يتساءلون: هل نحن على وشك مواجهة كارثة تشبه انفجار مرفأ بيروت، ولكن هذه المرة في منطقة مكتظة بالسكان مثل برج حمود؟

العمال في شركة "Unigaz" لم يقفوا مكتوفي الأيدي. فبمجرد معرفتهم بالخطر المحدق، رفعوا الصوت معترضين على وضع الخزانات الجديدة، مهددين بوقف العمل حفاظًا على حياتهم وحياة عائلاتهم. وأشار أحد العاملين السابقين في الشركة: "وقتها سارعنا لمعرفة ما هي هذه القنبلة التي يتم وضعها ليظهر أنها خزانا غاز شكلهما وحده مرعب. فقمنا برفع الصوت كعمال على الإدارة، وهددنا بأننا لن نستمر في العمل إذا تم وضعهما، لأن لدينا عائلات وأطفالًا لا نريد أن نفقد حياتنا". وعندما تم التصدي لهذه المخاوف، رد المسؤولون بقولهم إن لديهم رخصة، ولكن تبين لاحقًا أن هذا الكلام غير صحيح.

وفي خطوة قانونية، تقدمت بعض الشركات المجاورة لشركة "Unigaz" بدعوى لوقف الأعمال أمام قاضي الأمور المستعجلة في المتن، كما طلبت إبطال الرخص الممنوحة أمام مجلس شورى الدولة. وبناءً على قرار قضائي، أوقفت الشركة العمل مؤقتًا بالمشروع بعد نحو 15 يومًا من جريمة انفجار المرفأ، مما أتاح للسكان بعض الراحة المؤقتة.

ولكن، على الرغم من كل هذه الاعتراضات والتحذيرات، عاد الوزير بوشكيان وأعطى هذه الشركة ترخيص مؤكداً في اتصال هاتفي مع إحدى القنوات التلفزيونية أنه يملك "السلطة الاستثنائية" لاتخاذ هذه القرارات، مشددًا على أنه يرتقي في قراراته بناءً على الملف الذي بين يديه. فكيف يمكن أن يكون قرارٌ بهذه الخطورة مرهونًا بيد واحدة فقط؟

فعلى مدار سنوات، سعت شركة "Unigaz" لتوسيع خزاناتها، رغم أن هذه الخزانات لا تستوفي الشروط اللازمة لقربها من المباني السكنية. وبعدما أوقف مجلس شورى الدولة التراخيص السابقة، عاد الوزير الحالي ليمنح الشركة الضوء الأخضر من جديد، دون الحصول على الموافقات اللازمة أو تأمين الحد الأدنى من شروط السلامة العامة. هذا الإجراء يضعنا أمام خطر حقيقي لتكرار سيناريو انفجار الدورة عام 1989، في منطقة مكتظة بالسكان مثل برج حمود.

كما أن التوقيع على هذه التراخيص بطريقة مستهترة قد يعيد لبنان إلى مشهد مأساوي آخر، كما حدث في مرفأ بيروت. رغم أن قرار الوزير جاء مخالفًا لرأي اللجنة المختصة في وزارته، فقد مضى في الترخيص متذرعًا بصلاحياته المطلقة. وقد برر الوزير قراره بحصول الشركة على موافقة وزارة البيئة بعد دراسة الأثر البيئي، لكن المفاجأة كانت عندما نفى وزير البيئة ناصر ياسين ذلك، مؤكدًا أن الموضوع لا يزال قيد الدراسة. فهل عدل وزير الصناعة الترخيص لأسباب شخصية؟ وما هي الغاية الحقيقية وراء هذا القرار الذي قد يدفع بلبنان إلى هاوية جديدة؟