اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

من أين نبدأ يا سيّد بالكلام والكتابة؟ فاللسان يعجز عن توصيف المصاب، والقلم جفّ حبره يوم بلغه خبر استشهادك. يا سيّد، إن الألم عظيم، والحزن عميق، فمن أين نبدأ؟

في رائعة الأخوين الرحباني «أيام فخر الدين»، يحدّث الشيخ خاطر الأمير، متمنياً لو تمن السماء بالأمطار والثلوج على الأرض، فتعيق تقدّم الجيش العثماني، ويعود من حيث أتى. كان جواب فخر الدين حينذاك أن ما يغيّر المعادلة هو الخيانة. وها قد وقعت الخيانة يا سيّد، فسلّم أحدهم تفاصيل تحركاتكَ للعدو، فكان الاستشهاد.

يا سيّد، إن الأسبوعين الأخيرين وما حملاه من اغتيالات وعمليات أمنية، كانت رسائل مشبعة بالإجرام والوحشية، لثنيك عن دعم فلسطين. وحسبنا أنها أتت بتنسيق مشترك بين «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية، مدعومةً من استخبارات دول حلف الأطلسي والدول العربية المطبّعة، لكنك بقيتَ كما كنتَ، شامخا في وجه العواصف، ثابتاً كالأرزة في وجه الرياح. لم تتراجع، ولم تحِد قيد أنملة عن دعم فلسطين والدفاع عن شعبها وشعب لبنان. لقد أبلغوكَ الرسائل والتهديدات الواحدة تلو الأخرى، ومع ذلك حسمتَ في خطابكَ الأخير خارطة الطريق للمقاومة: «مهما تكن العواقب والتضحيات، فإن المقاومة لن تتخلى عن فلسطين وعن شعب فلسطين.»

يا سيّد، ما أشبه اليوم بالماضي القريب، يوم عاد أنطون سعادة من المهجر عام 1947، وأكد على وجوب الدفاع عن فلسطين من كامل كيانات بلاد الشام، وعمل على ذلك بالفعل. فكان التآمر عليه من عملاء الداخل بتنسيق مع القرار الصهيوني باغتياله.

يا سيّد، إن مبدأ «وحدة الساحات» وربط حركات المقاومة من لبنان إلى فلسطين، إلى العراق واليمن وحتى سوريا، أرعب العدو ومعه الأميركيين والغرب. لقد أطلقتَ يا سيّد حركة مشرقية لا رجعة عنها، حاول هؤلاء أن يميتوها منذ أن استعمروا أرضنا في عشرينات القرن الماضي، كما حاول العدو الصهيوني أن يفصل بين الساحات، ونجح لفترة زمنية في استفراد الفلسطينيين، وفصل قضيتهم عن باقي كيانات المشرق العربي. لقد أفشلتَ يا سيّد مخططاتهم، وأشعلتَ سراجاً لن ينطفئ رغم رحيلكَ المؤلم. لقد عمّدتَ مبدأ «وحدة الساحات» بدمكّ الطاهر الذكي، وأعدتَ لهذه الأمة بريقها الذي كاد أن يخبو، وأحييتَ لحمتها التي كادت أن تتهالك، ورسمتَ خطاً مستقيماً للمقاومة بالدم والتضحيات العظيمة.

يا سيّد، رغم أن للبنان الدور الأكبر في دعم غزة وفلسطين، إلا أن إيقاظكَ لتلك القوة الكامنة فينا، من لبنان إلى العراق إلى غزة، أخافهم وأنبأهم بفشل ما جهدوا على تنفيذه في العقود الأخيرة من فصل بين الساحات، فكان القرار الدولي الصهيوني باغتيالكَ. ما أيقظته يا سيّد لن يعود الى سباته العميق، بخاصة بعد استشهادكَ، فإن دمكَ الغالي شرط لانتصار القضية، ونهضة المشرق العربي في وجه الطغيان والاستبداد والإجرام الصهيوني. وها هم رجالكَ في الجنوب يُسطّرون الملاحم والبطولات في وجه أعتى القوى العسكرية في منطقتنا، مدعومة من إمبراطورية هذا الزمان. ها هي الصواريخ تمطر «تل أبيب» من لبنان، و«آيلات» من اليمن، وشرق فلسطين المحتلة من العراق.

خسئوا يا سيّد، نحن هنا ثابتون في قضيتنا، لا نحيد قيد أنملة عن واجب الدفاع والتصدي لقتلة يسوع الناصري والأنبياء والرسل.

يا سيّد، كيف لنا ان ننساكَ، وكيف للنسيان أن يجد سبيله إلينا وقد كبرنا على وقفاتكَ المهيبة وكأنها جبال من الكبرياء، وعلى صوتكَ الهادر كالرعد يزلزل أركان الظلم، ويشعل فينا ثورة لا تهدأ على ظلم واستبداد الاعداء. لقد تركتَ لنا يا سيد، إرثًاً ثقافياً ووطنياً وجهادياً يختزن في طياته حكمة الأجيال وصلابة المواقف، يكفينا لعصور مقبلة.

رحيلكَ الغادر لم يكن مجرد ألم، بل كان وجعاً يعصف بالروح، وحزناً ينحت في الوجدان، وبكاءً تفيض به أعين الرجال بكاءً لم نعهده إلا في وداع الأبطال. ومع ذلك، أقسم بالله أن نداءاتكَ ستبقى تصدح في مسامعنا، تملأ أركان عقولنا، وتضيء قلوبنا شعلةً لا تنطفئ ما حيينا، وما بقيَ فينا نفس ينبض.

كيف ننساكَ، وأنتَ قد امتزجتَ بروحنا كالنور في الصباح، وتسلّلتَ إلى هويتنا كالشريان في الجسد. أنتَ لستَ ذكرى عابرة، بل أنتَ نبض الحق في عروقنا المنتفضة، وصرخة العزة في وجداننا المقاوم، وسارية الراية التي لا تنكسر في ساحات الدفاع عن كرامة الأمة.

النهج باقٍ يا سيّد، والقضية منتصرة، والأرض سليمة، والمقاومة جهادية مستمرة على خطاكَ دفاعاً عن فلسطين، ومنتصرة في سبيل الحق والخير والجمال، لأنها كلها خيرٌ وحقٌ وجمالٌ.

يا سيّد، لن نتخلّى عن المقاومة، ولن نتخلى عن فلسطين وعن شعب فلسطين، وعن مقدسات الأمة في فلسطين.

الأكثر قراءة

أيّ صفقة أيّ فضيحة تنتظرنا؟