اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة

لا يمكن للنظام العالمي الجديد أن يتشكّل من دون أن يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في النظام المالي، الذي يفترض أن يتمشى مع ديناميكيات القطاعات الاقتصادية الجديدة، وتوازن القوى والأقطاب الصاعدة.

وفي قلب هذا التحوّل، تبرز المملكة العربية السعودية بخطواتها الجريئة نحو تنويع شركائها الاقتصاديين: فتصريح وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي، "بندر الخريف"، عن استعداد المملكة لتجربة أدوات اقتصادية جديدة مثل البترويوان، يشير إلى تحول تاريخي قد يعيد تشكيل الخريطة المالية العالمية.

فما هي الدوافع الكامنة وراء هذا التحوّل، وما هي آثاره المتوقعة في النظام المالي العالمي؟

وما الذي يعنيه انفتاح المملكة على "البترويوان"؟

اولا، لا شك أن التحوّل نحو العملات البديلة يأتي في سياق التنافس الجيوسياسي المتصاعد بين القوى العظمى، حيث تسعى كل منها إلى تقويض هيمنة الدولار الأميركي. فمع استخدام الولايات المتحدة الدولار "كسلاح اقتصادي"، واستبعادها دول عديدة من نظام سويفتSWIFT ، عقب الحرب الأوكرانية، في إطار عقوبات اقتصادية وصفها المحللون بأنها غير مسبوقة، سعت هذه الدول، ودول أخرى حليفة للولايات المتحدة إلى التقليل من اعتمادها على العملة الخضراء.

فرداً على العقوبات الغربية المفروضة عليها بعد الحرب في أوكرانيا، والتي أدّت الى تجميد الأصول الروسية المملوكة للبنك المركزي الروسي في الخارج؛ ردّت روسيا برفع التداول باليوان الصيني في الواردات والصادرات و المعاملات المالية الأخرى. وفي هذا السياق، أكّد "بوتين" أن الاعتماد الروسي على الدولار في التجارة الخارجية انخفض من 40% في عام 2022 إلى 13% حالياً، بينما ارتفعت حصة اليوان بشكل ملحوظ من 3% لتصل إلى 34%.

و ليست روسيا الدولة الكبرى الوحيدة التي تقع تحت طائلة العقوبات الأميركية، فقد سبقتها لذلك دول أخرى مثل الصين التي تعرضت لممارسات عقابية متزايدة، ما دفع هذه الدول جميعها الى توسيع مجموعة البريكس BRICKS، التي كانت تضم في البداية خمس دول فقط هي روسيا والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند، لتشمل اليوم خمس دول أخرى ، من بينها المملكة العربية السعودية الصديقة للولايات المتحدة ، في ما عرف ب BRICKS +، وذلك بهدف كسر النظام الذي كرّسته اتفاقية "بريتون وودز"، -التي توّجت الدولار الأميركي على عرش العملات العالمية؛ - و بالمقابل بناء نظام اقتصادي أكثر عدالة وتوازنا ومراعاةً لمصالح الدول الأخرى.

ولعل زيارة رئيس الوزراء الصيني المملكة العربية السعودية بدعوة من ولي العهد محمد بن سلمان، للمشاركة في الدورة الرابعة من اجتماع اللجنة المشتركة الصينية السعودية رفيعة المستوى التي عقدت في أيلول 2024 ، اضافة الى زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف للمملكة في الشهر نفسه ودعوته ولي عهد المملكة لحضور قمة بريكس + المقرر ان تعقد في مدينة كازان الروسية في تشرين الاول المقبل، كلّها دلائل على توجّه المملكة الاستراتيجي لتوثيق شراكاتها مع الدول والقوى العالمية المؤثرة، والمحافظة على علاقات متوازنة، لما يحمي مصالحها.

وتدرك المملكة العربية السعودية، بصفتها منتجاً رئيسياً للنفط، الميزة الاستراتيجية في تنويع شركائها التجاريين وسلة عملاتها. هذه الخطوة لا تمنح المملكة مزيداً من الاستقلال الاقتصادي فحسب، بل تشجع أيضاً دولاً أخرى على اتباع النهج نفسه، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي.

وبالاعتماد على بيانات صحيفة “وول ستريت جورنال" Wall Street Journal ، فإنّ 20% من نفط العالم تم شراؤه بعملات غير الدولار في عام 2023، اضافة الى محاولة العديد من البلدان بيع النفط إلى الصين باليوان بدلاً من الدولار؛ ما يشير إلى انخفاض ملموس في هيمنة الدولار الأميركي ضمن النظام التجاري الدولي.

علاوة على ذلك، يشكل صعود الصين الاقتصادي، إلى جانب تطويرها للبترويوان كبديل عملي للدولار الأميركي، تحديًا كبيرًا لهيمنة الدولار. فلا يخفى على أحد أنّ الصين كانت أول بلد يلقي بحجر على النطام العالمي عندما استطاعت أن تحقق معدلات نمو مذهلة لسنوات طويلة. وقد عزز هذا التحدي قرار المملكة العربية السعودية الاستراتيجي بالانضمام إلى منصة " mBridge " المالية، وهي منصة مالية تسهل المعاملات المالية السريعة والمنخفضة التكلفة. ومن خلال تقديم بديل أكثر كفاءة لنظام سويفت SWIFT، تسعى الصين إلى تقويض الأسس التي يقوم عليها النظام المالي القائم على الدولار الأميركي.

و يبدو أن السعي الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية نحو تنويع اقتصادها يتمشى تمامًا مع الأهداف الطموحة المحددة في "رؤية السعودية 2030"ومبادرة «الحزام والطريق» الصينية. فمن خلال تعزيز العلاقات مع الصين والانضمام إلى مجموعة بريكس + BRICKS، تسعى المملكة إلى إقامة علاقة اقتصادية أكثر توازنًا وتقليل اعتمادها على طرف واحدة. وتؤدي الصين، بصفتها أكبر مستهلك للنفط السعودي، دورًا حيويًا في هذه الاستراتيجية، كما يمثل اعتماد اليوان في معاملات النفط علامة فارقة نحو تحقيق هذه الأهداف.

هذا الصعود في البترويوان يشير بوضوح إلى أن عصر هيمنة الدولار الأميركي في طريقه إلى الانحسار. فإذا كان تسعير وبيع السعودية النفط بالدولار الأميركي قد أدّى إلى ما عرف بمصطلح "البترودولار" في سبعينيات القرن الماضي؛ فإن "البترويوان" قد يكون مصطلح هذه المرحلة بامتياز.

اضافة الى ذلك، يبدو أنّ الصين دخلت المملكة باحترافية عالية. ولعلّ انخراط الصين مع المملكة العربية السعودية يتجاوز التعاون الاقتصادي التقليدي ليشمل أبعادًا استراتيجية أعمق. فاتفاق البلدين على تبادل تدريس لغتيهما يعكس رغبة الصين في تعزيز نفوذها الثقافي في المنطقة. كما أن دعم الصين لبناء المفاعل النووي السعودي يمثل قفزة نوعية في العلاقات الثنائية في مجالات حيوية مثل الطاقة والتكنولوجيا، ويرسّخ مكانة الصين كلاعب رئيسي في المشهد الإقليمي.

على نحو آخر، تعدّ العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC) عنصرًا حاسمًا في التحول الجاري بعيدًا عن هيمنة الدولار الأميركي في المعاملات الدولية، بخاصة في مجال النفط. وتسعى العديد من البلدان الى استخدام ( CBDC) كبديل نقدي رقمي؛ ما يعزز من قوة عملاتها الوطنية في الأسواق العالمية، ويمنحها المزيد من المرونة في إدارة سياساتها النقدية والتجارية ويساعدها على إجراء التعاملات بشكل أسرع وأكثر كفاءة من الطرق التقليدية، و تجاوز العقبات التي يفرضها النظام المالي التقليدي، كالعقوبات والقيود المفروضة على التحويلات المالية.

في الختام، بينما يواجه العالم التحديات التي تفرضها التوترات الجيوسياسية والاقتصادية، يقدّم "البترويوان" مسارًا محتملاً نحو نظام مالي أكثر عدالة وتعددية. ومن خلال اعتمادها اليوان او العملات البديلة، تساهم المملكة في تقويض هيمنة الدولار وتشجيع دول أخرى على أن تحذو حذوها. هذا التحول من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية العالمية، ويعقّد حسابات الولايات المتحدة في المنطقة، ما يدفعها إلى إعادة تقييم سياساتها الخارجية.

لا شك ان المستقبل يحمل الكثير من التحديات والفرص، لكن من المؤكد أن السعودية، كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية، ستؤدي دورًا محوريًا في تشكيل هذا المستقبل...