اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عادل بشارة

قراءة من سفر يشوع:

"وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَبْدِ الرَّبِّ أَنَّ الرَّبَّ كَلَّمَ يَشُوعَ بْنِ نُونٍ خَادِمَ مُوسَى قَائِلاً: موسى عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الأردن" (يشوع 1: 2). و"نحو أربعين ألفاً متجردين للجند عبروا أمام الرب للحرب إلى عربات أريحا "(يشوع 4: 13) "... وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. [...] وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها" (يشوع 6: 20-21، 24).

اليوم، مطلوب قراءة سفر يشوع في المدارس الإسرائيلية، بل يحتل السفر مكانة مهمة لأن كثيرين من الناس يعتقدون أن سابقة قيام إسرائيل كدولة، يمكن العثور عليها فيه.

قدّم سفر يشوع البعد العضلي والعسكري للغزو وإبادة الكنعانيين وغيرهم من الشعوب القديمة التي سكنت "أرض الميعاد".

بعد إنشاء دولة إسرائيل، أصبح علم الآثار التوراتي هاجساً. كان أول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن غوريون، ملحداً، كما كان حال أغلبية الصهاينة المعاصرين الأوائل تقريباً؛ إذ كانوا علمانيين واشتراكيين وملحدين، إلا أن رواية الكتاب المقدس كانت وسيلة جذابة لإضفاء الشرعية على الحركة الصهيونية. عند تولّيه دوره كأول رئيس وزراء، وتعزيز إرثه كأب مؤسس لإسرائيل، نظَّم بن غوريون دروساً لدراسة الكتاب المقدس في مقر إقامته الرسمي، وكان دوره فعالاً في جعل دراسة سفر يشوع عنصراً رئيسياً في المناهج المدرسية في إسرائيل.

كان هذا الملحد الاشتراكي بن غوريون هو الذي أعلن أمام لجنة بيل في عام 1936 أن الكتاب المقدس "هو تفويضنا"، وقد نُقل عنه فيما بعد قوله "على الرغم من أنني أرفض اللاهوت، فإن الكتاب الوحيد الأكثر أهمية في حياتي هو الكتاب المقدس". لذلك، أصبح هذا الكتاب مادة دراسية تُدرَّس كحقيقة ثابتة لأطفال المدارس. واليوم أصبح بمثابة أول كتاب تاريخ يدرسه جميع أطفال المدارس داخل المجتمع الصهيوني في فلسطين، تحت رعاية نظام التعليم الإسرائيلي، فضلاً عن اعتبار ذلك أمراً مفروغاً منه من قبل الدولة اليهودية، والمجتمع العلمي والأوساط الأكاديمية عموماً.

بحلول عام 1992، أصبح الكتاب المقدس متأصلاً في المدارس حتى إن بنيامين بيت هالاخمي، أستاذ علم النفس في جامعة حيفا، استطاع أن يكتب، "يعتبر معظم الإسرائيليين اليوم الكتاب المقدس مصدراً للمعلومات التاريخية الموثوقة من النوع العلماني السياسي، وذلك نتيجة للتعليم الإسرائيلي. وظل الأمر على هذا النحو حتى في القرن الحادي والعشرين، حتى إنه لا يجوز بأي حال من الأحوال تخطّي سفر يشوع. علاوة على ذلك، ورغم أن تدريس هذا الماضي أثبت أنه مدمِّر أخلاقياً وتربوياً، فإن نظام التعليم الإسرائيلي يرفض استبعاد هذه الروايات المشينة عن الإبادة من المناهج الدراسية. فقد استشهد ديفيد بن غوريون مراراً وتكراراً بسفر يشوع لتبرير المذابح وما تلاها من التطهير العرقي الذي نفِّذ تحت ستار حرب عام 1948".

لكن قبل عام 1948، كانت أعمال التنقيب في فلسطين جارية خلال فترة الانتداب ابتداءً من عام 1917. كان الأميركي ويليام فوكسويل أولبرايت هو أول من سعى للتنقيب عن الآثار في الأرض المقدسة. لذلك فإن إرثه كواحد من أكثر علماء الكتاب المقدس تأثيراً في القرن العشرين يجعل نظرته إلى العالم أكثر إثارة للقلق. وباعتباره أصولياً، لم يشك أولبرايت في قصصٍ مثل سفر يشوع، بل إنه برَّرها:

"في تلك الأيام، كانت الحرب شاملة، وربما كان لدينا نحن الأميركيين حق أقل من معظم الدول الحديثة في الحكم على الإسرائيليين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لأننا قمنا، عن قصد أو بغير قصد، بإبادة عشرات الآلاف من الهنود في كل ركن من أركان أمتنا العظيمة وحشد الباقي في معسكرات اعتقال كبرى. غالباً ما يبدو من الضروري أن يختفي شعب من النوع الأدنى بشكل ملحوظ أمام شعب يتمتع بإمكانيات متفوقة، حيث إن هناك نقطة لا يمكن بعدها للخليط العنصري أن يمر دون كارثة. وهكذا استُبدل الكنعانيون بعبادتهم الطقوسية، وعبادة الخصوبة على شكل رموز الثعابين والعري الحسي، وميثولوجيتهم الفظيعة، بإسرائيل، ببساطتها الرعوية ونقاء حياتها، وتوحيدها السامي، وقانونها الصارم من الأخلاق".

وبحسب تعبير الباحث التوراتي كيث وايتلام من جامعة ستيرلنغ، فإن هذا التبرير الذي قدمه أحد رموز الكتاب المقدس العظماء في القرن العشرين لمذبحة السكان الفلسطينيين الأصليين أمر يسترعي الانتباه لسببين:

إنه فيض من العنصرية السافرة، وهو أمر مذهل، ولكن ما يثير الدهشة بالقدر نفسه هو حقيقة أنه لم يُشَر إلى هذا البيان أو يُعلَّق عليه، على حد علمي، في تقييمات علماء الكتاب المقدس التي تتطرق إلى عمل أولبرايت. هناك مشكلة واحدة جلية في تحليل فوكسويل، بالإضافة إلى أن النصوص التأسيسية التي تبرِّر المشروع الصهيوني وإنشاء دولة إسرائيل كلها هراء بهراء، فالمذبحة التي وردت في سفر يشوع لم تحدث أبداً، وقصص بني إسرائيل في الكتاب المقدس ليست دقيقة تاريخياً.

في عام 1999 كتب زئيف هرتزوغ، أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب، الذي كان في وقت ما مديراً لمعهد الآثار التابع للجامعة، مقالاً لمجلة هآرتس الأسبوعية بعنوان "تفكيك أسوار أريحا". كانت كلماته صعبة بالنسبة إلى الحَرْفيين المتدينين. بعد 70 عاماً من الحفريات المكثفة في أرض إسرائيل، اكتشف علماء الآثار أن بني إسرائيل لم ينزلوا في مصر، ولم يتجولوا في البرية، ولم يستولوا على أرض كنعان في حملة عسكرية، ولم ينقلوها إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر. بالإضافة إلى ذلك، وخلافاً للمزاعم بمملكة إسرائيل الموحّدة ذات السيادة، كانت مملكة داود وسليمان، التي وُصفت في الكتاب المقدس كقوة عظمى إقليمية، على الأكثر، مملكة قبلية صغيرة.

يصف هرتزوغ صعودَ ويليام فوكسويل أولبرايت في عشرينيات القرن الماضي، ثم بعد إنشاء دولة إسرائيل، صعودَ الآباء المؤسسين لعلم الآثار الإسرائيلي، بمن في ذلك بنيامين مزار، ونحمان أفيغاد، ويغائيل يادين، وآخرين. يكتب هيرزوغ أن استخدام الكتاب المقدس كدليل حرفي لاستكشاف العصرين البرونزي والحديدي كان ممارسة معتادة منذ البداية، واستمرت عقوداً. ومع ذلك، شيئاً فشيئاً، بدأت الشقوق تظهر في الصورة. على سبيل المثال، قصة موسى الذي يقود بني إسرائيل للخروج من مصر، وتجوالهم لمدة 40 عاماً في سيناء، بدت مشكوكاً فيها. فالوثائق المصرية المعروفة لدينا لا تذكر على الإطلاق إقامة بني إسرائيل في مصر أو الهجرة الجماعية اللاحقة لشعب بأكمله، وهو أمر مثير للفضول نظراً إلى أن المصريين احتفظوا بسجلات مفصَّلة للغاية تتضمن حتى الغارات الصغيرة؛ بل إن العديد من الوثائق يذكر ممارسة الرعاة المتجولين وهم يدخلون إلى الأراضي المصرية في أوقات الجفاف أو المجاعة، والاستيطان على أطراف دلتا النيل.