د. منير الحايك
يقول رولان بارت حول لذة النصّ "إن لذة النص، هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة؛ ذلك أن أفكار جسدي ليست كأفكاري. إنني أهتم باللسان، لأنه يجرحني أو يسحرني"، وفي رواية "وادي الفراشات" (دار الرافدين 2024) لأزهر جرجيس، التي تحكي حكاية شخصية رجل عاديّ، مستفزّ جدًّا في خياراته وقراراته وكيفية تعامله معها، كنت تظلّ تستمتع وتشعر بلذّة النصّ، تضحك ويخفق قلبك، وتحزن وتُستفَزّ وغير ذلك..، ولكن من أين كانت تأتي تلك اللذة!
هي قصة عزيز، الذي نعرف في بداية النصّ إنه في السجن ويزوره خاله جبران كعادته محمّلًا بالمتاع والزاد، عزيز الذي نعود معه إلى صباه، وكيف ألهته الكتب عن النجاح في المدرسة، فاضطر إلى اختيار المسرح اختصاصًا، ومعه نعرف القليل عن صديقه مهند، كل ذلك يحصل في بداية النص، فيكون الإيهام بأنّ القصة ستتنقل بين زمنين، ولكنها تكون أبسط من ذلك، ليستمرّ السرد تباعًا، حول علاقة عزيز بتمارا الثرية، وزواجه منها، وتعثّر ذلك الزواج بسبب عزيز نفسه، وقرارات تلك الشخصية المستفزّة. لكن الممتع بالأمر، أنه يأخذك معه من خطأ فادح إلى آخر، من دون أن يركّز على تبعات ذلك الخطأ، فكأنّ النصّ يريد أن يقول إن هذا المواطن العادي، سيظلّ يسقط في الحفر ولن يتغيّر.
ولكن هل هو عاديّ بالفعل، هو القارئ والمثقّف والعارف باللغة وتفاصيلها، وهو الذي قرّر تحدّي المجتمع بالزواج من تمارا الحبيبة، والتي لا تقلّ تصرفاتها استفزازًا عن عزيز في بعض المواقف، ولكنها تمثّل حال المرأة المحبّة، وهذا أمر يُحسب للنصّ، خصوصًا عندما تم معالجة الأمور ببساطتها، فكانت المتعة واللذة نابعة من بين الأسطر من دون أن يدري المتلقي مصدرها.
أسلوب جرجيس الساخر كان حاضرًا بقوّة في بداية الرواية، فالطالب الجامعي والمواقف الطريفة والأحاديث مع الخال جبران صاحب المكتبة أو مع الصديق، مبرّر لها السخرية، ولكن عندما أصبحت الأزمات تتتالى، خفّ زخم السخرية إلى أن اختفى، وهنا شغلٌ واضح من الكاتب على أسلوبه، فكان له لكل مقام مقاله. ولكن ما علاقة عزيز بوادي الفراشات.
يظهر الوادي وفكرته قبيل نهاية الرواية، ولأنّ متعة السرد والابتسام والاستفزاز كانت مسيطرة، لم يلحظ المتلقي أنه لم يربط بعد بين العنوان والمتن، وهذا من ميزات النصّ أيضًا، فالعنوان عند البعض يكون حاضرًا بقوة، وعند آخرين يكون من أجل أسباب أخرى تسويقية أو يكون خيارًا غير موفّق، ولكن هنا، ولأنّ النص أراد لعزيز أن يصبح لحياته معنى ومغزى، تركه يقع في أخطاء كثيرة، مرة بتهمة الانتماء إلى تنظيمات ملاحَقة، وأخرى بتهمة الدعارة، وأخيرًا بتهمة التجارة بأعضاء الأطفال، تهم لا علاقة لها ببعضها، لا يتَّهَم فيها إلا واحد كعزيز.
شخصيات أخرى كانت حاضرة حول عزيز، جبران، خاله المثقف صاحب المكتبة، والداعم الوحيد له حتى مماته، جبران الذي أعطى عزيزًا الكثير ولكنه لم يطلب مقابلًا. وتمارا، الحبيبة والزوجة الوفية، التي تحمّلت بشكل مستفزّ زوجَها، فغيرها من النساء لم تكن لتقبل بما قبلت به، ولكنها وصلت إلى الحائط المسدود بعد ضياع ابنها. أما الابن، سامر، فكان لرمزية وجوده الكثير من العمق والربط بين كل عناصر النص.
سامر كان حاجة لتوطيد أواصر الزواج، فكأنه كان الحلم لتوطيد أواصر العلاقات بين أبناء الشعب الواحد إن قلنا إن عزيزًا وتمارا، هما مكونان أساسيان من مكونات المجتمع العراقي، لا يتشابهان، ولكنهما متزوجان، سامر، الحلم، أُسقِط جنينًا في المرة الأولى، وفي الثانية، وبينهما دخل عزيز السجن، وأخرجه الخال، وعادت إليه تمارا، وهذه حال البلاد، نتناحر، نقع في الخطأ لأننا شعوب طيبة القلب، إن صحّ التعبير، ونعود إلى بعضنا البعض على أسس غير متينة من الفهم والمعرفة والانتماء الواحد، ولكن عندما جاء سامر، على الرغم من مرضه المزمن وعيبه الخلقي، وهنا يمكننا إحالة الأمر إلى الكثير من أمراض مجتمعنا، جاء ضياعه الرمز الأقوى، فالحلم بوحدة البلاد مع هذه الرواية، ضاع ولم يعد موجودًا.
عزيز الذي استلم عن بدري النقاش كتابه ومهمته بدفن الأطفال المرميين، هؤلاء الأطفال، الذين يجدونهم على قارعة الطريق، كل واحد منهم "سامر" بذاته، أو حلم مختلف، مصيره دائمًا القبر، وليس أيّ قبر، قبر في "وادي الفراشات"، المجهول، والوهميّ، وكل فراشة كانت تخرج من قبر كل طفل، هي تعبير صارخ عن جمال الحلم الذي مات. أما نهاية النص، والتي كانت فيها مفارقة عميقة بين قرار الموت وقرار الحياة، فكانت من أجل الأمل الذي أراد جرجيس أن ينهي نصّه معه.
لغة أزهر جرجيس فيها من لذة نصه ما لا يقل عن أفكاره وأسلوبه، لم يُكثر فيها من الصور والاستعارات، لأنّ هذه البساطة التي رافقت الشخصية، وقراراته، وأزماته، والبساطة التي تداخلت فيها أحوال الشخصيات وقبولهم بكل ما يحصل، كان يجب أن ترافقها بساطة في اللغة والأسلوب، وهذه ميزة تُضاف إلى النصّ.
هي رواية عن شخصيات تشبهنا، وعلى عكس ما ذكره النص في نهايته، بأنّ أي تشابه بين الشخصيات والأحداث وبين ما هو حقيقي هو محض مصادفة، وبرأيي هو المشهد الخيالي الوحيد في النص، فالرواية تتحدث عنّا، عنّي وعن كل من أعرفهم في بلادنا، وتأكيد النصّ على الطيبة لدى عزيز، ولدى جبران، ولدى تمارا، وما يقابلها من خبث الأخ، والتي لم أركّز عليها لأنها الشخصية المكرَّرة الوحيدة في النص، هو تأكيد عن أنّ كل شخصيات النص حقيقية.
يتم قراءة الآن
-
مُراقصة المستحيل في جنوب لبنان
-
الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً لحزب الله... تفاؤل حذر في مفاوضات الدوحة الانتخابات الرئاسية مُرَحّلة الى العام المقبل
-
مَن جرّب حزب الله... عقله مخرّب
-
إجماع نيابي على عبارة حرب «إسرائيليّة» ومُهجّرين وليس نازحين مراكز إيواء خالية من السلاح... واقتراح مُساعدة ماليّة شهريّة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:45
إذاعة الجيش الإسرائيلي: انفجرت طائرة بدون طيار انطلقت من العراق في شمال مرتفعات الجولان، وسقوط مسيرة تسللت من جهة الشرق باتجاه منطقة شمالي الجولان دون وقوع إصابات
-
23:44
القناة 14 الاسرائيلية: بن غفير يهدد نتنياهو بإسقاط الحكومة إذا مضى بالاتفاق مع حزب الله
-
23:43
وزارة الصحة: 19 شهيداً في حصيلة غارات الجيش الإسرائيلي على مزرعة صليبي وبدنايل في بعلبك
-
23:31
المقاومة في جنوب لبنان: قصفنا تجمعات لجنود الاحتلال "الإسرائيلي" في مستعمرة جشر هزيف بصلية صاروخية
-
23:17
تجدد الغارات على سحمر في البقاع الغربي
-
غارة عنيفة على حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت