اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

منذ أن بدأ "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، كان الصحافيون اللبنانيون في خضم المعركة، يحملون كاميراتهم كدروع ويمسكون بالقلم كالسيوف. اختاروا أن يكونوا هناك في قلب الأحداث، يشهدون على فصول التاريخ، يوثقون الواقع الذي أراد الاحتلال أن يطمسه، ولكنهم لم يكونوا مجرد شهود، بل كانوا القوة التي تكشف الظلم.

وفي وقت كانت "إسرائيل" تحاول فيه تدمير كل شيء، كانت الصحافة اللبنانية والفلسطينية في الصفوف الأمامية، تتحدى آلة الحرب بالكلمة والصورة.

رغم كل المخاطر، ورغم القصف الذي لا يميز بين المدني والصحافي، كان هؤلاء الصحافيون يقفون في وجه الظلام، يحملون مسؤولية أكبر من مجرد نقل الأخبار. كانت الكلمة التي يكتبونها أمانة، وكانت العدسات التي يوجهونها نحو السماء الملبدة بالقصف، أداة للكشف عن جرائم لا يُمكن للعالم أن يتجاهلها. لكن "إسرائيل"، التي كانت تحاول بكل وسيلة محو الحقيقة، كانت تسعى أيضا لاستهداف الصحافيين بشكل ممنهج، لتخفي ما يحدث في قلب لبنان وفلسطين، ولكن هؤلاء الصحافيون لم يسمحوا لها بذلك.

في ذلك الزمن، كان لكل يوم ثمن، وكل لحظة كانت تحمل خطرا محدقا على أولئك الذين حملوا الكاميرات دون أن يفكروا في أنفسهم، بل في الكلمة الحرة التي لا تموت.

اغتيال محمد عفيف، المسؤول الإعلامي في وحدة العلاقات الإعلامية لحزب الله، كان بمثابة جرس إنذار لكل صحافي في لبنان وفلسطين. اغتياله لم يكن مجرد استهداف لشخص، بل استهداف لفكرة، لاستهداف حقيقة كانت "إسرائيل" تخشى من كشفها. كان الحاج محمد شاهدا على أحداث يصعب على الآخرون توثيقها. الغدر به كان رسالة واضحة من الاحتلال: "لا مكان للصحافة الحرة في هذا الزمان". لكنهم فشلوا، لأن الحقيقة كانت أكبر من أي قنبلة.

قتل الصحافة... ضحايا العدالة

ولكن اغتيال عفيف كان مجرد نقطة في بحر من الجرائم، التي ارتكبها الاحتلال "الإسرائيلي" ضد الصحافيين. منذ بداية الحرب، ارتقى 14 صحافيا في مشهد مأساوي يعكس حجم الوحشية التي تجتاح آلة القتل "الإسرائيلية". هؤلاء الصحافيون كانوا يسيرون على درب الحقيقة، متحدّين أكبر آلة حرب في العالم، ويدركون تماما أن كل صورة يلتقطونها، وكل تقرير يكتبونه، وكل كلمة يقولونها، هي بمثابة شهادة تُكتب في أزقة التاريخ. لم يكن موتهم عبثا، بل كان ضريبة الحقيقة.

عصام عبدالله... آخر الصور قبل الرحيل

في 13 أكتوبر 2023، كان عصام عبدالله، مصور وكالة "رويترز"، يغطي العدوان "الإسرائيلي" في علما الشعب. كانت سيارته التي تقل مجموعة من الصحافيين، بينهم مراسلون من وكالات أجنبية، هدفا واضحا لطائرات الاحتلال. بصاروخ دقيق أُسقطت السيارة، وارتقى عصام في لحظة صمت مروعة.

لم تكن هذه مجرد جريمة قتل، بل محاولة لمسح كل ما كان يراه ويشعر به ويُصوره. كانت عيون عصام مفتوحة على الحقيقة التي كانت تتكشف أمامه، لكن لم يكن من المسموح له أن يراها أكثر من ذلك. كان اغتياله محاولة لمنع العالم من رؤية ما كان يحدث، لكن الحقيقة لا يُمكن قتلها، ولا يمكن إخفاؤها.

فرح عمر وربيع معماري... بين العدسة والموت

في 21 نوفمبر 2023، ارتقت فرح عمر مراسلة قناة الميادين مع ربيع معماري المصور، الذي كان يرافقها في طيرحرفا جنوبي لبنان. قبيل استشهادها، كانت فرح في تغطية مباشرة عبر شاشة الميادين، تُحدث عن الدمار الذي حل بالمنازل وعن المأساة التي يعيشها أهل الجنوب.

كانت تعيش اللحظة بكل تفاصيلها، وتُسجل الحقيقة بكل حرف. وكانت كاميرتها التي تلتقط اللحظات الأخيرة، أكثر من مجرد آلة توثيق، كانت سلاحا ضد الاحتلال. وبجانبها، كان ربيع المعماري مصور الميادين، يقترب أكثر فأكثر من لحظات الموت، ليلتقط في عدسته ما حاول الاحتلال محوه.

لكن الغارة "الإسرائيلية" كانت أسرع منهما ، وأخذت أرواحهما في لحظة، ليختطفهما الموت وهما على قيد الحياة في ساحة المعركة. ومعهما، غاب جزء من القصة، ولكن القصة نفسها بقيت حية في قلوب من عرفوهم.

وسام قاسم وغسان نجار ومحمد رضا...

في الميدان لنقل الحقيقة

ثم جاء 25 أكتوبر 2023، ليحمل معه مأساة أخرى. استهدفت الطائرات الحربية "الإسرائيلية" مقرًا للصحافيين في حاصبيا، وفي تلك اللحظات الحاسمة، سقط وسام قاسم مصور قناة "المنار"، وغسان نجار مصور قناة "الميادين"، ومحمد رضا مراسل آخر من "الميادين". كانوا جميعا في الميدان، يقتربون من جبهات القتال، ليكونوا شاهدين على الفظائع التي كان الاحتلال يرتكبها.

لم يكن في ذهنهم الخوف، بل كان في قلبهم وعد لشعبهم: "سنروي للعالم ما يحدث هنا". أما وسام قاسم فقد كان يرفض أن تُمر لحظة واحدة دون أن تُوثق. كانت عدسته تُظهر الحقيقة بكل وضوح، وكان يواجه أكبر التحديات من أجل أن يظل الأمل حقيقيا، رغم كل الدمار من حوله. أما غسان نجار، الذي تميز بقدرة فائقة على نقل الصورة الحية للألم، فقد كان أقرب إلى خط النار من أي وقت مضى.

ومحمد رضا، الذي كان يحاول دائما أن يلتقط اللحظات القاسية ويروي للعالم القصة كما هي، دون تلوين. وفي غارة واحدة، حصدت الطائرات "الإسرائيلية" أرواحهم، ولكن لم تقتل القصص التي كانوا يروونها.

ردود الفعل الدولية... عجز العالم

أمام الجرائم "الإسرائيلية"

بعد هذه الحوادث المروعة، كانت هناك ردود فعل لمنظمات دولية، ولكنها بقيت محدودة وغير كافية. فقد أدانت منظمة "مراسلون بلا حدود" ومنظمة "العفو الدولية" هذه الجرائم، واعتبرتها انتهاكا صريحا لحرية الصحافة، ولكن تبقى هذه الإدانات في معظمها مجرد كلمات غير مترجمة إلى خطوات عملية على الأرض.

"إسرائيل" التي انتهكت بشكل متكرر حقوق الصحافيين وحرية التعبير، لم تواجه أي تداعيات حقيقية على هذه الانتهاكات.

المجتمع الدولي، الذي أدان تلك الجرائم، بقي عاجزا عن اتخاذ أي خطوات حاسمة لوقف هذه الانتهاكات، مما ترك الصحافيين في لبنان وفلسطين يعانون في صمت، بينما كانت "إسرائيل" تواصل استهدافهم، تاركة وراءها جثثا بلا حساب.

القانون الدولي وحقوق الصحافيين...

"إسرائيل" فوق القانون

لا يمكن إغفال أن اتفاقيات جنيف تحظر استهداف الصحافيين أثناء الحروب والنزاعات المسلحة. بموجب البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، يُعد الصحافي شخصا مدنيا يجب أن يتمتع بالحماية. واستهداف الصحافيين في لبنان، بما في ذلك اغتيال محمد عفيف النابلسي وغيره من الصحافيين، يعد انتهاكا فاضحا لهذا القانون الدولي.

إذا كان هناك من تساءل عمن يتحمل مسؤولية حماية الصحافيين في مناطق النزاع، فإن الإجابة واضحة: الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك معاهدات الأمم المتحدة، تؤكد أن الصحافيين لا يجب أن يكونوا هدفا لأي طرف في النزاع.

الصحافة لا تموت... الحقيقة أبدًا لا تُحجب

لقد كانت دماء هؤلاء الصحافيين، الذين سقطوا في العدوان "الإسرائيلي" على لبنان، دماءً طاهرة سقت أرض الحرية التي لن تموت. اغتيالهم لم يكن مجرد جريمة حرب، بل كان إعلانا عن محاولة "إسرائيلية" لقمع الحقيقة وكتم أصوات المقاومة. كانوا يحملون كاميراتهم كدروعٍ، وكلماتهم كانت سلاحا أقوى من أي طائرة حربية. لم يكن موتهم عبثا، بل كان بمثابة إشعال شعلة الحقيقة في ظلام الاحتلال. هؤلاء الصحافيون ارتقوا من أجل أن تظل الكلمة حية، ومن أجل أن تظل الحقيقة صادقة، مهما حاولت آلة الحرب محوها.

ورغم أن أجسادهم قد سقطت تحت ركام القصف، فإن أسماءهم ستظل حيّة، ترددها ألسنة الأحرار في كل مكان. دماؤهم كانت بذرة حرية زرعت في أرض لبنان وفلسطين، وستظل تنمو وتنمو حتى تعود للظهور، ولا يمكن لأي طائرة حربية أن تحجب نور الحقيقة الذي أضاؤه.

الصحافة لا تموت، فمع كل صحافي يستشهد، تزداد الحقيقة وضوحا. ومع كل قطرة دم تراق، يزداد العالم وعيا بما يحدث تحت القصف. هؤلاء الصحافيون كانوا أكثر من مجرد ضحايا، كانوا أبطالا في معركة الكلمة، في معركة نقل الحقيقة التي لا تُسكتها آلة الحرب. وكلما غاب شهيد، زادت عزيمة مَن بقيَ، وأصبحت الكلمة أكثر قوة في وجه الظلم، لتبقى أبدا حية. 

الأكثر قراءة

العلويّون ضحايا العلويين