اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عندما أصدرت دار نوفل 4 روايات قصيرة بداية العام الحالي من ضمن مشروع لها يشجع على كتابة هذا النوع من الروايات القصيرة، لم يكن واضحًا سبب التصنيف الذي اعتمدته الدار، وعرفت فيما بعد، بعدما كنت قد قرأت "لعنة صبي كرات الطين" لمازن معروف و "كهف الألواح" لمحمد أحجيوج، أن التصنيف ارتبط بشكل أساسي بعدد كلمات النص، وقد أقنعني التصنيف في النوفلتين السابقتي الذِكر، لأن الموضوع والشخصيات والبنية كانت مقعنة أيضًا، أما مع نوفيلا "ذئب العائلة (نوفل 2024) لصهيب أيوب، التي هي بالفعل رواية قصيرة، ولكن أطول من الروايتين القصيرتين السابقتين، فكل مكوّناتها تقول، صفحة بعد أخرى، إنها رواية مكتملة العناصر والفنية والعلاقات واللغة...

بدأت بهذه المقدمة لأنني سأتعامل مع النص، على خلاف النصين السابقين، على أنه رواية وليس نوفيلا، مع كلّ التقدير لمشروع الدار وغايتهم منه، فصيهب أيوب، تعامل مع شخصياته ومع قضاياه ببراعة الروائي في الروايات الطويلة جدًّا... الرواية تبدأ مع حكاية حسن السبع، الطفل حسن، حسن الأخرس، الذي يبدأ بتعريفنا بحياته التي قرر أن يكون فيها غير مرئي، ويخبرنا قليلًا عن تصرفاته بين الصيادين، وعن جدّته شمسة وعمته جلنار، ومعه نعرف قليلًا عن تجربته قبلةً أولى مع أحد أصدقائه في قهوة الصيادين، وعندما نعرف أيضًا قصة الفتاة التي تحبّ "المصّ" لصديقها، نقول إنّ صهيب أيوب يريد التركيز على هذا الطفل المثليّ جنسيًّا، بوصفها قضية رائجة وتبناها أيوب فيما سبق، ومع ظهور دولتشي فيتا في حياة زياد السبع، يقول المتلقي إنّ الأمر مقتصر على هذه القضية. ولكن أيوب كان أذكى وأكثر حِرَفية.

الرواية أخذتنا إلى طرابلس المدينة ذات التنوّع الكبير في حيوات ناسها، وخصوصًا المنسيين منهم، وهم أكثرية، لذا كان النصّ عنهم ولهم، ولأنّ هذا الفتى الضعيف واحد من هؤلاء الضعفاء، وحتى والده زياد الذي خاض تجارب مع دولتشي فيتا، الفتاة الخنثى مع العضو الذكري، أيضًا لأنّ الغاية كانت التدليل على فساد الجميع في تلك البيئة، وخصوصًا ما ترويه له، وما حصل معها قبل قتلها أيام الحرب الأهلية. فهذه المرأة، وحالها الجسدية غير الطبيعية، كانت  الرمزية الأعمق للحال الدائمة لطرابلس، بوصفها مدينة كبرى تمثل لبنان، وأنّ هذا الضياع في الجندرية، (وهو واقع، غير قابل للنقاش كالنقاش الذي يُخاض تجاه المثلية وهل هو قرار من قبل صاحبه أو صاحبته...) هو عينه الضياع في الانتماء وفي التاريخ والجغرافيا الذي عاشه ويعيشه لبنان وأهله وما زالوا.

الشخصيات تتنوّع وتتفرّع الأحداث حتى يكاد المتلقي يضيغ بينها، فالنصّ يعود بنا إلى قصة شمسة عام 1965، وزواجها من حمد الخضر، ومن ثم هروبها مع الذهَب حاملًا بطفليها، زياد وجلنار، زياد الذي يسرد النصّ قصته مراهقًا وشابًّا، وعلاقاته وتجاربه، ومن ثمّ سبب زواجه من هذه المرأة بالتحديد، وهي والدة حسن، أما جلنار فلم نعرف عنها الكثير. ولعل التركيز على قصّتي شمسة المرأة وزياد الرجل، كانت من أجل الوصول إلى ما يقوم به حسن، أو حمد، لا فرق، وهو ما نعرفه في نهاية الرواية.

كثيرة هي أخبار طرابلس التي سردها النصّ، وأخبرتنا بها شخصياته، وليست وداد المتلصصة والتي تلقى بشكل عبثي جزاء تلصصها، وهرغول الفنان، والرطل، وسميح الدندشي وهروب ابنه للقتال في الشام، سوى حالات تمثّل المدينة، ربطتها علاقات سريعة أو وثيقة من هنا وهناك بشخصيات النص، أو عائلته، شمسة وزياد وحسن، كل ذلك ليحكي لنا أن العبث أحيانًا الذي يعيشه هؤلاء الفقراء والمنسيون، يكون هو المسيّر الأساسي لحيواتهم العادية أو ما دون العادية، وأنّ حدثًا واحدًا، قرارًا واحدًا، كالذي قامت به شمسة في بداية حياتها، قد يكون مسيّرًا لعبثٍ يأتي من بعده، فتكون المراوحة بين التخطيط والعبث هي اللعبة الأساسية للنص وأحداثه، ولعلّ رأس شمسة الذي يسقط من الكيس في بداية النص، ومعرفتنا بالقاتل في نهايته، لهو خير دليل على هذا الصراع الذي حكم النص، وسؤاله الأبرز، هل حياة هؤلاء يحكمها العبث، أم قراراتهم الشخصية، أم حال البلاد بشكلها العام؟

لغة أيوب تكون مرهقة في بداية النص، فهو يريد لكلّ جملة أحيانًا أن يكون للخيال والبيان والبلاغة حصة فيها، وهذا أمر قد يعيق السرد ويعيق سلاسته وانسيابيته، ولكن الأمر لا يكون عائقًا، فالكاتب لم يبذل جهدًا ليصوغ جمله بهذه الطريقة، ولم يتكلّف، وصِدق تجربته الشعورية هو الذي جعل أسلوبه مقبولًا، ولكن الملاحَظ أنه يبدأ بالتقليل من هذا الأسلوب مع انهماكه في متابعة شخصياته والربط بينها وانشغاله بالعلاقات، فتعود اللغة السردية لتسيطر، وهنا أعتقد أن هذا قد شكّل خللًا بسيطًا، فقد كان من الأجدى أن يكون الأسلوب متناسقًا خلال لغة النص من أولها وحتى آخرها.

أما اللغة غير المقنعة فهي عندما تركت الرواية لحمد الخضر المساحة لكي يتحدث عن نفسه وحياته وعلاقاته، فمستوى اللغة المستخدمة، والأفكار المطروحة وعمقها كانت أعلى من مستوى الشخصية التي عرفتنا بها شمسة، ولكن في نهاية النصّ، وما قام به حسن من أجل جده، حمد، قد تجعل المتلقي يعدل عن موقفه تجاه كلام حمد، فموقف حسن الحفيد منه، كان ليثبت أنّ هذا الجد، كان كما لغته، وليس كما وصفته شمسة، وهنا أمر يُحسَب للرواية، لأن موقف المتلقي بقي غير واضح تجاه الشخصيات، وهو أمر قام به أيوب عن قصد، وليس لأنه أراد أن يكون حياديًّا، فالضياع هذا هو المقصد والأساس، تجاه شخصيات لبنانية، لبعضها أصول سورية، في منطقة حدودية.

وهنا أنهي أنّ قضية المثلية أو الشذوذ! والكلمات الجنسية المباشرة التي قد يجدها البعض منفرة، جاءت برأيي داعمة لما سبق وذكرته، فالموقف المتذبذب تجاه الأحداث والشخصيات، والحالات الشاذة غير الواضحة التي حصلت، مع حسن وزياد، ومع دولتشي فيتا وزبائنها، لهو العنصر الأبرز الذي ميّز النص، اللبناني، الطرابلسي، ولعل الانتماء واكتشاف الهوية كانا الغاية غير المعلنة. 

الأكثر قراءة

الرئيس المنتظر: هل تُحسم التسوية قريباً؟ اردوغان ينتظر ثمن ما في سوريا: هل تكون حلب الجائزة؟