يكثر الحديث عن أنّ المنطقة مقبلة على إعادة رسم خرائطها أو على ما يُسمّى بـ سايكس-بيكو "جديد" على أسس مذهبية وعرقية قائمة، وأن التقسيم سيصيب الكثير من الدول، ومنها سوريا أو حتى لبنان. ولا نعرف حتى الآن هل انقسم العراق، أم لا يزال نظامه "فيديراليا" موحّدا بين الشيعة والسنة والأكراد؟ وليس واضحاً إذا كان تحوّل لبنان إلى نظام فيديرالي أو كونفيديرالي يندرج تحت عنوان "التقسيم المقنّع". هذا رغم نفي مروّجي الحلّ الفيديرالي خصوصاً، بأنّ هذا ليس هو هدفهم المُعلن أو المستتر.
ويمكن الإستدراك، بأن لبنان الحالي في واقع الأمر هو نظام "هجين" نوعاً ما، على ما يقول مؤلّف كتاب "مئة عام على إتفاقية سايكس- بيكو: قراءة في الخرائط" الدكتور بسّام عبد القادر النعماني لـ "الديار"، إذ يجمع بين الاثنين، أي الفيديرالية والكونفيديرالية الطوائفية، وذلك تحت عنوان عريض هو "الديموقراطية التوافقية" أو "الميثاقية". أمّا "الفيتو" الذي يمتلكه بعض التكتلات السياسية لتمرير أو عدم تمرير القوانين أو الاستحقاقات الدستورية، مثل انتخاب رئيس الجمهورية أو تشكيل الحكومة، فهو بالحقيقة مظهر من مظاهر "الكونفيديرالية". كما أنّ وجود مناطق "مغلقة" يمكن دخولها أو عدم دخولها أو الإقامة فيها، فهو أيضاً مظهر من مظاهر "الفيديرالية" الجغرافية.
وفي ما يتعلّق بمسألة تعديل الحدود، يلفت الى أنّه سبق لرئيس الحكومة "الإسرائيلية" بنيامين نتنياهو أن قال أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وأمام الكونغرس الأميركي أنّ ما يجري حالياً هو في إطار "إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط". وهو يُلوّح بخرائط يحملها بيده. فهي تُبدي بعض التفاصيل، وتغفل عن تفاصيل أخرى. وكذلك فعل الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان أمام الجمعية العامّة بتلويحه بخريطة للحدود مع سوريا أمام الأمم المتحدة، مع تأكيده بأنّ ليس لديه أطماع في سوريا الشمالية بل مجرّد حفظ الأمن. ومنذ سبعة أشهر، أي قبل إنفجار جبهة "الإسناد" اللبنانية، تشكّلت جماعات من المستوطنين "الإسرائيليين" تنادي بدفع الحدود إلى نهر الليطاني أو الأولي بحجة أن منطقة جبل عامل لطالما كانت إمتداداً شمالياً للجليل الأوسط، وبأنها ضمن تشكيلة تضاريس الجليل الأعلى، وبأنّ جنوب لبنان كانت ضمن التوزيع التوراتي للأسباط الإثني عشر في أرض كنعان. كما بأن الحركة الصهيونية الحديثة لطالما نادت أمام عصبة الأمم وفي عرائض قدمتها إلى الدول الكبرى، بضمّ جبل الشيخ، والجولان والجنوب اللبناني إلى دولة "إسرائيل" المزمع إقامتها. وها قد تقدّمت "إسرائيل" في الأيام الأخيرة لتحتلّ جبل الشيخ ولتُلغي المنطقة المنزوعة السلاح بين جيشها والعاصمة دمشق.
وكذلك رُوي عن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، على ما يُضيف النعماني، بأنّ "إسرائيل" صغيرة الحجم. كما نقل أحد مساعديه بأنه أصبح ضليعاً بجغرافية الشرق الأوسط ويمكنه باحتراف كبير رسم خريطتها ووضع توزّع القوى المختلفة فيها وأماكن تواجد القواعد العسكرية الأميركية. وحيث أن له خبرة كبيرة في المجال العقاري وما يصحبها من تصاميم وخرائط، فلعله يرى نفسه خبيراً بما فيه الكفاية لإعادة رسم حدود المنطقة لـ "حلّ" مشكلاتها العصية المزمنة.
وإلى أن يُبرز كلّاً من نتنياهو وترامب خرائط الشرق الأوسط "الجديد" الذي لا نعرفه، على ما يوضح السفير النعماني، يمكن الإستعانة بخرائط مأخوذة من أرشيف الدول الكبرى. فهذه خريطة (مرفقة) توزيع الطوائف والمذاهب والإثنيات في سوريا ولبنان واللذين كانا تحت حكم الإنتداب الفرنسي (علماً بأن الإنتداب البريطاني رسم خريطة مماثلة للتوزيعات في العراق). وقد رسم الخريطة جهاز الاستخبارات الخاصة التابع لجيش المشرق الفرنسي في العام 1935. وهذا يعني بأن معلومات الخريطة والتوزع الجغرافي للطوائف والمذاهب أُخذت من مصدر موثوق ومكلّف باستقصاء المعلومات والإحصاءات، أي من جهاز أمني محترف.
وكما يتبين من الخريطة، على ما يُضيف، فإنّ لبنان وسوريا يُشكّلان لوحة فسيفساء تختلط فيها الأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات. ولا يمكن أن تبرز إلّا من خلال تعايش وتواصل هذه المجموعات بين بعضها البعض لقرون مضت. ولكن تظلّ الخريطة تعكس نوايا الحكم الفرنسي: بأنه يمكن حكم هذه المنطقة عن طريق سياسة "فرّق تسد". ومن المظاهر المضحكة إستماتة الفرنسيين في الفصل والتفريق بين التركمان وبين القادمين من تركستان. فالفريق الأول يُسمّيه الفرنسيون بال Turcoman. بينما يسمون الفريق الثاني بال Turkménes. وهم تركمان أيضاً، ولكنهم قادمون من جمهورية تركستان في الاتحاد السوفياتي القديم. فهل هذا يعني بأنه يتوجّب منح كل منهما دويلة"؟!
ويبدو أنّ صعوبة تشكيل دول جديدة على النطاق الطائفي، وفق النعماني، هو عدم وجود تكتلات جغرافية واحدة لهذه "الفسيفساء" إلا في حالات قليلة إستثنائية. فعلى سبيل المثال، هنالك "جيوب" درزية في ريف دمشق في مدينتي كسوة وجديدة أرتوس، وفي الشمال في تأريب وقرون الشغرة؛ و"جيوب" شركشية حول القنيطرة وبنات يعقوب في الجولان وممبج وأعزاز على الحدود التركية؛ ويزيديون في جنوب عفرين، وأرمن في دير الزور؛ و"جيوب" كردية في جسر الشغور وفي المناطق حول حلب، وأشوريون شمال بئر آغا، وموارنة في بانياس؛ وسريان كاثوليك في نبك؛ وروم كاثوليك في مسمية جنوب دمشق.
والأمر يسري على "جيوب" سائر الطوائف والمذاهب والإثنيات المنفصلة عن قطب رحى هذه الدويلات الطائفية أو الإثنية والتي من المفترض بأنّها ستقام لها بشكل مستقل، بحسب بعض المؤرّخين والخبراء أمثال المستشرق الأميركي برنارد لويس: الدروز في جبل العرب والشوف؛ والعلويون في ساحل اللاذقية؛ والشيعة في البقاع وجبل عامل؛ والموارنة في جبل لبنان؛ والإسماعيليون في السلمية؛ والأكراد في المنطقة الفراتية التي تمددت فيها "قوات سوريا الديموقراطية" بشكل مثلث قواعده جرابلس- دير الزور-المالكية؛ إلخ...وإذا تمت محاولة مطابقة توزع فصائل المعارضة السورية الحالية (قوات سوريا الديموقراطية)، الأكراد وحلفاؤهم؛ هيئة تحرير الشام؛ داعش؛ الجيش السوري الوطني؛ تحرير تركستان؛ وفصائل أخرى مجهولة الهوية (على الخريطة المُرفقة)، فسيتبين بأن بعض الفصائل يتضح ما هي المناطق التي أتت منها، بينما تمدّدت الفصائل الأخرى، وسيطرت على جهات يفترض بأنها غير خاضعة لها تقليدياً.
فماذا ستفعل الدويلات "الجديدة" بهذه "الجيوب"، إذا وقع المحظور وفعلاً تشكّلت مثل هذه الدويلات، على ما يتساءل النعماني، فهل سيبيدون هذه "الجيوب" عن بكرة أبيها على "الطريقة" الإسرائيلية"، مثلما فعل تنظيم "داعش" مع اليزيديين، أم سيهجّرون أهلها عنوة إلى دويلاتهم الطائفية المخصصة لهم بعد أن عاشوا في بلداتهم مئات السنين؟ ولماذا يقومون أصلاً بإجبارهم على النزوح؟ ألا يحق للإنسان أن يعيش أينما يريد بحرية وإطمئنان مثلما أعلنت شرعة حقوق الإنسان للأمم المتحدة التي ساهم اللبناني د.شارل مالك في صياغتها؟ وماذا سيحصل للسنّة الذين يشكلون السواد الأعظم لسكان منطقة سوريا الجغرافية؟ هل سيُمنحون دويلات صغيرة هنا وهناك في المدن السورية الرئيسية؟ وماذا سيحصل للروم الأرثوذكس الموزّعين في كل المناطق؟ وهل سيتم تقطيع أوصال الأرمن بين كل هذه الدول والدويلات، ويصيبهم ما يصيب الآخرون من قتل وتشريد وتهجير؟
ولهذا فإن سايكس-بيكو "الجديد"، في الخلاصة، سيؤدي إلى تشظّي المنطقة، بحسب رأي النعماني، وبداية حروب طاحنة لا نهاية لها على رسم الحدود "الجديدة" وكيفية توزيع مختلف الطوائف والمذاهب والقوميات. ولنا في ما حصل بين لاسا والعاقورة، والخلافات حول ملكية القرنة السوداء مثالين صغيرين للخلافات حول رسم الحدود. وحتماً ستقع خلافات مماثلة بين أقاليم ومناطق دويلات سايكس-بيكو "الجديد". فلاسا والقرنة السوداء تُشكّلان خلافات عقارية امتدت لمئات السنين تختلط فيها الحدود بالجغرافيا بالتاريخ وبالطائفية أيضاً. ولن يوجد أي حلّ لها إلّا إذا اعتمدت الأطراف لغة المنطق والحوار والتسوية واللجوء إلى القانون وإلى المؤسسات الدستورية القائمة.
وفي المقلب الآخر، يحق لإسرائيل إستقبال المهاجرين من كل أنحاء العالم ومن كافة الجنسيات والأعراق والقوميات فقط لأنهم يتبعون الديانة اليهودية. ذلك لأنّ إقامة دولة يهودية وبقاءها و"توسّعها"، أضحت من مسلّمات الأهداف الإستراتيجية للقوة الأعظم في العالم، ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية. فالحفاظ على أمن المنطقة وحماية كياناتها المستقلة القائمة وحق تقرير المصير للشعوب والتي تأسست عليها شرعة الأمم المتحدة، فقد أصبحت من الماضي. والمطلوب الآن تقسيمات جديدة لا تشكل خطراً على الكيان الإسرائيلي بحجة أنها إرهابية أو "متطرفة"، بل إنّ الحروب الطاحنة بين بعضها البعض ستجعلها جميعاً ملحقة وخاضعةً لنفوذ "إسرائيل" الكبرى. وقد بدا واضحاً بأن الضربات الإسرائيلية الجوية للجيش السوري هي إشارة عملانية لعدم رغبتها بإستمرار قيام سوريا موحّدة. وهو شبيه بما حدث في العراق عندما حلّ الأميركيون الجيش العراقي وأرسلوهم إلى بيوتهم فانضمّ الكثيرون منهم إلى داعش.
يتم قراءة الآن
-
سلام متمسك بصلاحياته: لست «ليبان بوست»... عقبات امام التأليف؟ التعيينات الأمنية على نار حامية... هل تبدأ المداورة من المراكز الهامة؟ ماكرون لفريقه: مؤتمر لإعادة الاعمار في بيروت بحضور دولي
-
العالم يترقب مُفاجآت ترامب... مصالح «أميركا أولاً» أسبوع حاسم جنوباً...غموض «إسرائيلي» والمقاومة تحذر توزيع نهائي للحقائب الأساسيّة... ولادة قريبة للحكومة
-
أيّ رؤوس ستسقط ...؟!
-
أنا أميركا ... أنا العالم
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:17
المجلس الأوروبي يعتمد حزمة مساعدات ثالثة لدعم الجيش اللبناني بقيمة 60 مليون يورو
-
13:12
غوتيريش: قوة ترامب الدبلوماسية حسمت اتفاق وقف النار في غزة
-
12:51
بدأ الجيش اللبناني إعادة تمركزه في بلدة كفرشوبا
-
12:41
حركة المرور كثيفة على الاوتوستراد الداخلي وضمن التقاطعات طرابلس
-
12:41
حركة_المرور كثيفة على شارع الحكمة بالاتجاهين الاشرفية
-
12:41
حركة_المرور كثيفة على جسر شارل حلو باتجاه الصيفي