اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


الآن بعد أن خمدت الحرائق التي التهمت في واحدة من أقسى موجاتها أجمل وأعز وأشرف قادتنا خطر ببالي أن أعود سنين إلى الوراء إلى بيت شُيّد ليكون "قصراً" للمقاومة. وكأنّ القدر الذي أخرج والدي من حضن المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر العلمي والتبليغي أواخر العام 1979من العراق هو نفسه الذي أوحى له أن يأتي إلى بلدته "البيسارية" من قرى قضاء الزهراني في جنوب لبنان وربما في اللحظة التي شاءها الله ليكون ما يكون بعدها. كان الوالد العلامة الراحل الشيخ عفيف النابلسي بعد أن جرى نفيه قسراً إلى لبنان قد تلقّى عروضاً للعمل في الإمارات وليكون فيها وكيلاً للشهيد الصدر وأخرى في أميركا وكندا ولكنها كلها كانت تعترضها عراقيل لم تكن كل ملامحها واضحة.

وصل إلى القرية بلا شيء سوى الإيمان والإرادة على مواصلة المسيرة النبوية التي لا ترضخ لضيق الأرض والحياة. رتب أمور عائلته بسرعة وقرر أن يبني بيتاً يكون مسجداً وحسينية وحوزة علمية ومكتباً سياسياً ومركزاً إعلامياً وخدماتياً ومجلساً للشعروالأدب ومخزناً للسلاح ومقراً لكل مقاوم يريد أن يصنع تاريخاً مجيداً للبنان والأمة. البيت الذي بناه عمّار جار لم يدرس الهندسة قط لم يكن يدري أنّ الشيخ عفيف يريد كل هذه الوظائف المتشعبة لبيته وإنما بيت مثل كل بيوت القرية التي بناها. مع انتهاء الأعمال بدأ البيت يعج بالزوار من مختلف الطبقات وبعلماء كبار لم يسبق أن زاروا القرية ومسؤولين حزبيين وعسكريين كبار من حركة أمل ومن أحزاب أخرى يعقدون اجتماعات مطولة لا أحد يعلم ما يدور فيها. زيارة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين مثلاً حوّلت البيت إلى محجة لوافدين من مختلف المناطق وأكّدت محوريته كنقطة اتصال بين الجنوب وبيروت وبين الأطراف والمركز وبين الناس طالبي الحوائج والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي كان والدي في حينها عضواً فيه. زيارات المرجع الديني الراحل السيد محمد حسين فضل الله المتكررة وجلساته الطويلة مع الوالد كانت لحظات تأسيسية عظيمة ورؤيوية كما ينقل إخوتي الكبار.تردد طلاب علم منهم الشيخ راغب حرب إلى البيت ودراستهم على الوالد جعله حوزة دينية صغيرة. قراءة الوالد للعزاء أيام محرم الحرام وفي مناسبات دينية حزينة أخرى مع عدم وجود قراء عزاء في ذلك الوقت على النحو المتعارف عليه اليوم دفع البعض ليطلق عليه وصف "الحسينية". الخدمات التي كان يقدمها الوالد للفقراء والمعدمين والنازحين والزائرين والعابرين بين المدن والقرى صيّره منشأة خدمية تتكفل بالإيواء والإطعام والراحة فيجد هؤلاء جميعاً في هذا البيت الملجأ والحب والاهتمام. الشعراء أيضاً كانوا يرون في البيت ناديهم ومقهاهم وجلسات ودّهم يأتون بقصائدهم للتخفيفعن أنفسهم من وحشة الظروف.

كان ذلك كله قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982.مع بدء الاجتياح للبنان كان البيت هو الحافة الأمامية في العمل العسكري والإعلامي والتوجيهي. في غرفه بدأ "محمد عفيف" الذي جاء توّاً من الرياض مهندساً في الأمن الصناعي، يجمع حوله الشباب ويخطط لمهاجمة دوريات العدو الإسرائيلي ومقراته في منطقة ساحل الزهراني، بعد ذلك سيجد فيه شبان آخرون من قرى جبل الريحان وإقليم التفاح والنبطية وصيدا وصور منهم من هو قائد الآن ومنهم من اسُتشهد، مكاناً مناسباً للاجتماع والراحة والتجهز والانطلاق لضرب العدو. سيتحول البيت مع تطور حركة الاعتصامات والانتفاضات الشعبية إلى غرفة أخبار ونقل المعلومات وتوزيع الدعوات لاحتفالات ومسيرات وأنشطة مدنية مناهضة للعدو، وإلى خلية نحلمن مشايخ وشبان متحمسون يشتركون جميعهم بصنع مصير جنوبهم عن طريق تخمير مادتهم العظيمة "المقاومة".

وفي هذا البيت كُتبت الحروف الأولى لإنشاء أكبر حركة علمائية هي "هيئة علماء جبل عامل" التي كان لها دورمحوري في تعبئة الجماهير ضد الاحتلال ومدّ العمل المقاوم بالمشروعية الدينية والأخلاقية بل ومنح المقاومين الأذونات المالية الشرعية لشراء السلاح والتدرب وصرف ما يحتاجونه في هذا السبيل.

من البيت كنا نحن الصغار نسمع خطوات الخارجين منه فجراً أو القادمين إليه لنكتشف لاحقاً أنّ عملية عسكرية قد وقعت ضد دورية إسرائيلية أو مقر عسكري،أو لنستيقظ صباحاً فنرى الشيخ راغب قد قدم أو أحد العلماء ليخبر الوالد عن أمر جلل فتتضاعف مخاوفنا حول المكان الذي نعيش فيه والذي لا يفارقه الخطر، وفي هذا البيت كانت الوالدة تخبئ السلاحبين جبل "اللحف والشراشف والحرامات والمخدات"، وتطلب من بعض نساء القرية أن يأتين لمساعدتها في تحضير الطعام لجموع الزائرين والمقاومين وتترك لهم في المطبخ ما يقتاتون به حين يجيئون في أنصاف الليالي، وعلى تخومه بنت لهم درجات من حجارة يقفزون عبرها سور البيت إلى بساتين الجيران عندما تأتي دورية إسرائيلية تبحث عن "المخربين". وإذا كانت دوريات المخابرات الإسرائيلية قد نجحت في اعتقال عدد من الشباب من داخل المنزل إلا أنها فشلت في اعتقال آخرين استطاعوا الفرار وفشلت في معرفة مخازن السلاح بفعل صلابة الوالدة التي أبت أن يتجرع البيت مرارة الهزيمة والانكسار.

مع اغتيال الشيخ راغب حرب اشتد الإطباق على المنزل ووضع العدو العيون عليه لمراقبة الداخلين والخارجين فصار صعباً إلا على عدد محدود من الأشخاص زيارته، فدخل مدة سنة معلقاً بذاكرة كل من دخله وتحسس دفئه وكرمه وشرف نضاله.

مع انسحاب قوات الاحتلال من أجزاء من منطقة الزهراني عاد البيت مجدداً ليكون غرفة قيادة للمقاومة يحضر فيها  الشهداء السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله والحاج عماد مغنية والحاج فؤاد شكر والحاج علي كركي (أبو الفضل) والحاج سمير مطوط والحاج عبد الأمير سبليني وهيثم دبوق وعدد كبير من القادة والمقاومين كانوا يذرعون غرف المنزل ويملأون زواياه بالنقاشات والجلسات الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والتحضير لعمليات عسكرية متواصلة لدفع الاحتلال لاستكمال انسحابه. استعاد البيت (القصر) نشاطه بزخم أكبر. حضر الحاج عماد مرات لتنفيذ عملية اقتحام لمكان تجمع القوات الإسرائيلية بين قرية النميرية وقرية الشرقية.

جرى وضع اللمسات الأخيرة في إحدى غرف الطابق الثاني وكانت رؤيتنا للشباب وهم يمدون الخرائط ويلبسون (الجعب) وبنادقهم بين أيديهم من أمتع ما كنا نشاهده في صغرنا. شورى حزب الله في الجنوب كانت تعقد الكثير من جلساتها في هذا البيت، وكان دور الصغار تقديم الشاي الذي كان يحرص الوالد أن يكون من ألذ ما يشربه الضيف، والسيد عباس جعله مقراً دائماً لاجتماعاته ولقاءاته وخطط فيه للعديد من العمليات البطولية ضد مواقع الاحتلال وكثيراً ما كان يرسل وراء أشخاص ليلتقيهم في (بيت الشيخ عفيف) حتى لا يضطر لقطع مسافة طويلة إلى بيروت أو البقاع وهو في عز انهماكه وانشغاله بالميدان العسكري. السيد حسن كذلك الأمر كان يتردد باستمرار ويقوم باتصالاته اللاسلكية من إحدى الغرف التي وُضع فيها جهاز مركزي يستطيع من خلاله التواصل مع الإخوة المجاهدين في محور الإقليم أو الاتصال بإخوة في بيروت والبقاع، وكان هذا الجهاز هو الوسيلة الوحيدة آنذاك للتواصل مع الآخرين، كذلك نزل في هذا البيت العديد من قادة الحرس الثوري ولا سيما المسؤول في حينه عن تقديم الدعم للمقاومة الراحل السيد علي أكبر محتشمي الذي كانت تربطه بالوالد علاقة وثيقة.

في هذا البيت عبرت كل إيقاعات المقاومة وسكنته أرواح المجاهدين والشهداء بعمق، وكانت غرفه وجدرانه وباحاته شاهدة على أحداث هامة في تاريخ الجنوب والصراع مع العدو، واحتض على مدى سنوات كانت فيها المقاومة مجردة من الراعي والحاضن والمال، أهم اللحظات التأسيسية في تاريخ المقاومة الإسلامية، فكان الوالد هو الذي يوفر الغطاء والمأوى والمال ويفتح المسالك والدروب والقنوات كي تمارس المقاومة مهامها براحة وجدارة.

لقد منح الوالد البيت للمقاومين ليشعروا بالأمان وجعله مفتوحاً لكل حر شريف يريد أن يصنع مستقبلاً مشرقاً لشعب قُدر له بحكم الجغرافيا أن يعيش كل هذه المحن والعذابات، وكان للحاج محمد (القائد الشهيد)، الذي بدأ مشواره الجهادي بالبندقية ثم القلم كاتباً لبيانات وشعارات المقاومة في بداياتها، وبقية إخوتي الكبار، نصيب في خلق الكثير من الصور البطولية والذكريات الجميلة المليئة بالعزة والشجاعة والإباء حتى ارتسمت في أذهاننا هذه المشاهدات البسيطة بما يسمح به الوعي الطفولي البريء عن بيت كان بحق قصر المقاومة والمقاومين.

الأكثر قراءة

الخيام محررة من الاحتلال... ضغط اميركي والمقاومة تراقب المناورات الرئاسية مستمرة و«معراب» ترفع سقف شروطها قلق حول سوريا و«اسرائيل الكبرى» تدغدغ احلام نتانياهو