اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


تأخر هطول الأمطار هذا العام في لبنان أثار قلقًا واسعًا على مختلف الأصعدة، سواء البيئية او الزراعية وحتى الاقتصادية، نظرًا لأهمية الأمطار في تأمين المياه وتوازن المنظومة البيئية. وبحسب الخبراء والمراقبين، فقد شهد الموسم الحالي نقصًا حادًا في كميات الأمطار مقارنةً بالسنوات السابقة، مما ينبئ بتبعات خطيرة قد تتفاقم في حال استمرار هذا الجفاف.

وفي هذا السياق، سبق أن أوضح الخبير البيئي كنج أن الأمطار التي شهدها لبنان هذا العام أقل بكثير مقارنة بالعام الماضي. فعلى سبيل المثال، سجلت مدينة طرابلس العام الماضي معدل هطول بلغ 265 ملم، بينما لم يتجاوز هذا العام 135 ملم فقط، في حين أن المعدل العام يتراوح بين 190 و195 ملم. وأكد أن النصف الثاني من الشهر الجاري لا يحمل معه أي بشائر إيجابية، حيث قال: "الأمور لا تزال جافة، فكافة المنخفضات الجوية تقع في غرب المتوسط وليس في شرقه، أو حتى في وسط المتوسط، مما يعني أن لبنان لا يزال بعيداً عن هذه المنخفضات".

الأضرار البيئية الناتجة عن تأخر الأمطار

يُعد تأخر هطول الأمطار مصدر تهديد خطير للمنظومة البيئية في لبنان، حيث تعتمد معظم النباتات والغابات على المياه الشتوية لتستعيد حيويتها وتستمر في نموها بشكل طبيعي. ومع غياب كميات الأمطار الكافية، تتعرض التربة للجفاف تدريجيًا، مما يفقدها خصوبتها ويؤثر سلبًا على نمو النباتات والأشجار. هذا الجفاف لا يُقلل فقط من التنوع البيولوجي، بل يؤدي أيضًا إلى موت مساحات كبيرة من الغطاء النباتي، الأمر الذي يُساهم في زيادة التصحر وتآكل التربة بفعل الرياح والأمطار القليلة والمتأخرة. كما يُفاقم ذلك خطر اندلاع حرائق الغابات، التي شهدت في السنوات الأخيرة تكرارًا مُقلقًا في لبنان، بسبب الجفاف الطويل وارتفاع درجات الحرارة الناجم عن التغيرات المناخية العالمية.

ولا يقتصر التأثير على السطح فقط، بل ينعكس تأخر الأمطار بشكل مباشر على مصادر المياه الجوفية، إذ يعتمد تجدد هذه المصادر بشكل رئيسي على هطول الأمطار خلال فصل الشتاء. ومع انخفاض كميات الهطول، يتراجع منسوب المياه الجوفية، ما يؤدي إلى نقص ملحوظ في المياه الصالحة للاستخدام سواء للشرب أو للري. هذا الأمر يُشكل تحديًا كبيرًا، خصوصًا في المناطق الريفية والجبلية التي تعتمد على الآبار الارتوازية كمصدر رئيسي للمياه. ويُسهم الجفاف أيضًا في تقليص تدفق الأنهار والينابيع، التي تُعد شريان الحياة للكثير من المناطق اللبنانية، مما يُزيد من حدة أزمة المياه في البلاد.

يُعتبر القطاع الزراعي الأكثر تضررًا من تأخر هطول الأمطار، خاصةً أن الزراعة في لبنان تعتمد بشكل شبه كامل على الأمطار الطبيعية لري المحاصيل، خصوصًا خلال فصل الشتاء. هذا التأخير يهدد إنتاجية المحاصيل الشتوية مثل القمح، الشعير، والبقوليات، التي تُعتبر أساسية في الأمن الغذائي اللبناني. وتُصبح الأرض غير قادرة على إنبات المحاصيل في ظل التربة الجافة، مما يضع المزارعين في مواجهة خسائر مالية فادحة نتيجة تراجع الإنتاج. وفي محاولة لتعويض نقص الأمطار، يلجأ المزارعون إلى الري الصناعي، وهو حل مُكلف وغير متاح للجميع، خصوصًا مع ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف تشغيل المضخات في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها لبنان.

وبالإضافة إلى تأثيره على المحاصيل، يؤدي الجفاف إلى نقص في المراعي الطبيعية، مما يُفاقم أزمة قطاع الثروة الحيوانية. إذ يضطر المربّون إلى شراء الأعلاف الجاهزة بأسعار مرتفعة لإطعام مواشيهم، ما يُزيد من أعبائهم المالية ويُهدد استمرار هذا القطاع الحيوي.

التغيرات المناخية... السبب الأبرز

وتُعد التغيرات المناخية العامل الأبرز وراء ظاهرة تأخر هطول الأمطار، حيث أحدثت تحولًا كبيرًا في الأنماط المناخية التقليدية على مستوى العالم. فقد أصبحت الظروف الجوية أكثر تقلبًا وتطرفًا، مع تزايد فترات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في مناطق عديدة، خاصة في منطقة شرق المتوسط، بما في ذلك لبنان.

في السابق، كانت المنطقة تتمتع بفصول شتاء منتظمة تشهد تساقط كميات وفيرة من الأمطار تُغذي التربة والمياه الجوفية والأنهار. إلا أن التغيرات المناخية أدت إلى تحول مسار المنخفضات الجوية التي كانت تصل إلى شرق المتوسط، فأصبحت معظمها تتجه نحو غرب المتوسط أو وسطه. ونتيجة لذلك، أصبح لبنان يعاني من غياب المنخفضات الجوية الفعّالة، ما يحرم البلاد من الهطولات المطرية الغزيرة التي كانت تُميّز هذا الموسم وتُنعش المنظومة البيئية والزراعية.

هذه التغيرات المناخية لا تقتصر على تأخر الأمطار فحسب، بل تشمل أيضًا زيادة فترات الجفاف الطويلة، التي تؤدي بدورها إلى ارتفاع معدلات التبخر نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، ما يُفاقم مشكلة ندرة المياه. كما أن تقلبات الطقس أصبحت أكثر حدة، إذ تشهد بعض السنوات أمطارًا غزيرة بشكل مفاجئ تُسبب فيضانات وأضرارًا، بينما تشهد سنوات أخرى جفافًا حادًا، كما هو الحال في الموسم الحالي.

إن التأثيرات المتراكمة لهذه الظاهرة تُنذر بمزيد من التحديات في المستقبل، خاصة إذا استمرت الانبعاثات الكربونية العالمية دون ضوابط فعّالة. فارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى ذوبان الجليد في القطبين، وتغير حركة الرياح، ما يُؤثر بدوره على أنماط توزيع الأمطار عالميًا. وهذا الواقع يضع لبنان ودول المنطقة أمام ضرورة التكيف مع الظروف المناخية الجديدة من خلال تبني استراتيجيات مستدامة لإدارة المياه وحماية الغابات، وتعزيز الوعي بأهمية مكافحة التغير المناخي على جميع الأصعدة.

الأكثر قراءة

العلويّون ضحايا العلويين