اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لم يستغرق العام 2025 وقتاً طويلاً ليكشف عن وجهه الأمني القاتم. فمنذ أيامه الأولى، بدا وكأن البلاد دخلت في فصل جديد من فصول الفوضى، حيث تصاعدت الجرائم بشكل يثير القلق، لترتسم خريطة من الفلتان تمتد بين الأحياء السكنية والأسواق التجارية ومكاتب تحويل الاموال، التي أصبحت أهدافاً مباشرة لعصابات السرقة. بات المشهد أقرب إلى رقعة شطرنج قاتمة، حيث يتحرك المحتالون، مدفوعين بإحساس متزايد بأن القانون لم يعد يملك من الهيبة سوى اسمه.

على الأرض، تُظهر الوقائع أن السرقات لم تعد مجرد حوادث متفرقة يقوم بها أفراد يبحثون عن غنيمة سريعة، بل أضحت عمليات مدروسة ومنظمة، وموزعة وفق خرائط جغرافية واجتماعية محددة، وكأن البلاد صارت ساحة مفتوحة للمحترفين، بعضهم من الداخل وآخرون اجانب. هذا الامتداد الإجرامي ليس مؤشرا على تراجع اقتصادي، بل هو انعكاس لفراغ أمني تتغلغل فيه مجموعات تنتمي إلى ما يمكن وصفه بـ "اقتصاد الجريمة"، حيث يتحول النهب إلى نشاط منظّم، والجانحون إلى أدوات في شبكة أوسع من الهرج، الذي يغذي نفسه من هشاشة الدولة وانعدام الرقابة الفعالة.

لكن الأخطر من ذلك هي التحولات التي طرأت على أسلوب تنفيذ هذه الجرائم. فالسرقات لم تعد مجرد اقتحامات سريعة أو عمليات سطو عشوائية، بل بدأت تحمل بصمات أكثر احترافية، حيث بات الجناة يدرسون الأهداف، يراقبون حركة الشوارع، ويختارون التوقيت الأنسب للانقضاض، تماما كما يفعل صيّاد محترف قبل أن ينقضّ على فريسته. البعض يغير هويته، البعض الآخر يختبئ خلف أقنعة قانونية، فيما تبقى الضحية واحدة: أمن اللبنانيين الذي يتآكل ببطء، دون أن تملك الدولة ما يكفي من الأدوات الفعالة لمواجهة هذا النزيف المتفاقم.

في قلب هذه المعادلة، يعود قطاع الصيدليات الذي كان هدفا للسرّاقين في فترات سابقة، الى الواجهة، حيث لجأ أصحابها إلى إغلاق الأبواب والاحتماء خلف نوافذ صغيرة لبيع الدواء للمرضى، خوفاً من أن يصبحوا هدفاً جديداً لموجة السرقات. هنا، تتحول المسألة من مجرد "جنحة" إلى واقع يفرض نفسه على الحياة اليومية للمواطنين.

فهل نحن أمام موجة سرقة عابرة؟ أم أن لبنان يتجه نحو مرحلة جديدة من الانهيار الأمني؟ حيث تصبح السرقة جزءا من يومياته المعتادة؟ وهل يمتلك اللبنانيون ترف الانتظار للحلول؟ أم أن الوقت حان لإعادة النظر الجذري في أدوات المواجهة الأمنية، قبل أن تصبح الجريمة أسلوب حياة لا مجرد استثناء؟

احتيالات بالجملة!

حتى تاريخ 5 شباط 2025، تكشّف عن تصاعد ملحوظ في أنشطة السرقة، التي تعاملت معها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. تشمل هذه الوقائع سرقة كابلات هاتفية، منازل ودراجات نارية، مما يثير العديد من الأسئلة حول مصير الأمن اللبناني وتبعات هذه الاعتداءات على المال العام. ورغم هذه الحوادث، لم تصدر المديرية إحصاءات شاملة حول إجمالي عدد الاستيلاءات منذ بداية العام الحالي حتى هذا التاريخ. وبذلك، تظل الأسئلة حول الانتشار المستمر للسلب في لبنان، وعلاقة هذه الجرائم بالاقتصاد المحلي والمال العام بلا إجابة واضحة.

جولة لـ "الديار" تكشف تدابير فردية وقائية

في سياق متصل بهذه الافعال الاجرامية، اكتشفت "الديار" خلال تحقيقاتها حول تصاعد عمليات السلب في لبنان منذ بداية عام 2025، أن العديد من منفذي هذه الجرائم ليسوا من الجنسية اللبنانية، إذ تبين أن هناك أشخاصا من جنسيات غير لبنانية، خاصة من سوريا، ينفذون عمليات النشل. وكان لافتا أن بعض هؤلاء ينتمون إلى جنسيات أخرى، بينهم أشخاص من الأردن احترفوا الاختلاس، ومن ضمنهم امرأة أردنية الجنسية من مواليد العام 1994، لكنها تدّعي أنها لبنانية مكتومة القيد وتحمل اسما مغايرا، وتُعرف بأنها من أصحاب السوابق في هذا النوع من الجرائم.

وفي ظل تصاعد هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة، قامت "الديار" بجولة ميدانية لرصد الوضع، لا سيما في منطقة الأشرفية، التي تُعتبر من الأحياء التي يحسدها كثيرون على أمنها واستقرارها مقارنة ببقية المناطق اللبنانية، نظرا لطبيعتها الهادئة والراقية. لكن هذه السمة المميزة بدأت تهتز مع تنامي الجرائم، ما دفع الأهالي وأصحاب المحال التجارية إلى اتخاذ إجراءات احتياطية.

القطاع الصيدلي الى الامن الذاتي در!

ومن بين الظواهر التي برزت مجددا، لاحظنا خلال جولتنا أن الصيدليات باتت تعتمد تدابير أمنية غير مسبوقة، إذ لجأ العديد من أصحابها إلى إغلاق الأبواب الرئيسية، مع ترك فتحة صغيرة فقط لخدمة الزبائن، بحيث لا يُسمح بالدخول المباشر إلى الداخل، خوفاً من التعرض لعمليات سطو. جاءت هذه الخطوة بعد تكاثر محاولات السرقة في الآونة الأخيرة، حيث شهدت مناطق مختلفة من لبنان سابقاً اعتداءات متكررة على الصيدليات، لكنها كانت قد انحسرت بعض الشيء، قبل أن تعود إلى الواجهة في الأيام القليلة الماضية.

يطرح هذا الواقع تساؤلات حول مدى قدرة القوى الأمنية على ضبط الوضع، خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي تدفع البعض إلى ارتكاب الجرائم، مما ينعكس بشكل مباشر على الإحساس العام بالأمان في البلاد.

هجمات متلاحقة في ظل غياب الحواجز الأمنية!

لم يعد الحديث عن الانفلات الأمني في لبنان مجرد مخاوف متفرقة، بل تحوّل إلى واقع يومي تفرضه عمليات السلب والقتل، التي تتنقل بين المناطق كأنها ضربات متسلسلة تُنفّذ بدم بارد. من استهداف رجال الدين إلى سرقات السيارات وعمليات السطو المسلح، تتوالى الأحداث بوتيرة متسارعة، في ظل تساؤلات حول قدرة الأجهزة الأمنية على احتواء هذا المشهد المتفلت.

رصاص يطارد رجال الدين

ففي بلدة المريجات، كاد الأب إيلي بشعلاني أن يقع ضحية محاولة اغتيال، بعدما لاحقته سيارة مشبوهة، قبل أن يطلق أحد المهاجمين النار على منزله وسيارته، في مشهد أشبه برسالة تهديد واضحة.

أما في بصاليم، فقد تحوّل منزل الأرشمندريت أنانيا كوجانيان إلى مسرح لجريمة مروعة، حيث قُتل بوحشية وسُلبت مقتنياته، في حادثة هزّت الطائفة الأرمنية، وأثارت تساؤلات حول خلفياتها، خصوصا مع توجيه أصابع الاتهام إلى عمال كانوا يعملون لديه.

فضلًا عن جريمة فاريا التي قضى فيها الشاب خليل خليل دهسا. وما يزيد من خطورة هذه الحوادث هو تزامنها مع انطلاق العهد الجديد، الذي يحمل وعودا بمكافحة الجريمة وتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية، في وقت تُظهر فيه هذه الأجهزة سرعة في توقيف مرتكبي الجرائم الفردية.

سرقات واغتيالات: المال هدف والدماء ثمن

الى جانب كل ما ذكر، امتدت يد الجريمة إلى ضبيه، حيث قُتل جورج روكز، صاحب معرض سيارات برصاص لص أراد سرقة سيارة فارهة ، كانت شريكته ترغَب فيها.

وفي الأشرفية، هزّت عمليات السطو المنطقة، إذ تعرّض محل لتحويل الأموال لعملية سرقة مسلحة، في وقت تصاعدت عمليات نشل المواطنين بأساليب احتيالية من قبل عصابات منظّمة. كما لم يسلم الشارع السياسي من هذا المسلسل الدموي، حيث قُتل باسكال سليمان، منسق حزب "القوات اللبنانية" في جبيل، في عملية وصفتها بعض الجهات بالاغتيال السياسي. كما سقط رولان المر، أحد كوادر الحزب نفسه، في ظروف لم تتضح ملابساتها بعد، مما يفاقم الاحتقان في الشارع اللبناني.

في ظل هذا المشهد المتفلت، يتساءل المواطن اللبناني: هل أصبحت الجريمة منظمة إلى حدٍّ يفوق قدرة الدولة على مواجهتها؟ لماذا يبدو الأمن وكأنه يركض خلف الأحداث، بدلًا من منع وقوعها؟ اين هو الردع؟ لماذا لا تتخذ إجراءات حازمة؟ وهل يكون العام الجديد امتدادا لهذا المسلسل الدموي؟ أم أن الأجهزة الأمنية ستنجح في استعادة السيطرة قبل فوات الأوان؟

الجرائم المتنقلة: مخطط أمني مريب!

من جانبها، تؤكد مصادر أمنية مطلعة على التحقيقات الجارية، ومعنية بالأوضاع الأمنية في البلاد لـ "الديار" أن "إعادة ترتيب الوضع الأمني، وفصله عن التجاذبات السياسية باتت ضرورة ملحّة، لضمان فرض العدالة على الجميع بشكل متساوٍ ودون استثناء. وتوضح المصادر ان الواقع المحلي يشهد تقلبات خطرة، نتيجة تداخل الصلاحيات بين الأجهزة الأمنية وضعف التنسيق بينها، مما يعقّد قدرة القطعات المعنية على ملاحقة الجناة ومحاسبتهم".

وفي هذا الإطار، تنقل "الديار" استفسار المواطن اللبناني الذي يسأل بمرارة: لماذا لا يرى حواجز نقالة وثابتة للأجهزة الأمنية في مختلف المناطق اللبنانية؟ حيث يعتقد المواطن أن انتشار هذه الحواجز في مختلف انحاء الوطن، من شأنه أن يحدّ من تفشي الجرائم المتنقلة ويسهم في ترسيخ الأمن والطمأنينة بين المواطنين.

وفي إجابة على هذا التساؤل، يوضح المصدر "أن وجود حواجز ثابتة ونقالة في جميع المناطق، سواء التي تشهد توترا أمنيا او التي تعتبر امنة نسبيا، أمر بالغ الأهمية. لكنه يلفت إلى أن القدرة على تنفيذ ذلك، تواجه عقبات كبيرة بسبب قلة الإمكانيات المتاحة للأجهزة الأمنية، مثل نقص العناصر البشرية والآليات. كما ان القوى الأمنية، رغم جهودها المستمرة لملاحقة المجرمين والتجار المستغلين للظروف، تجابه تحديات في تنفيذ هذه الخطة، بسبب الحرب "الإسرائيلية" الأخيرة والوضع الاقتصادي الراهن في لبنان، الذي أثر سلبا في القطاع الأمني، من حيث التمويل وتوفير المعدات اللازمة، مما يجعل من الصعب إقامة حواجز بشكل منتظم أو مستمر في جميع المناطق. ويختم المصدر الامني بالكشف "عن وجود خطط قيد الاعداد للتصدي للأعمال التي تزعزع امن المواطنين في الأيام المقبلة".

الأكثر قراءة

نتنياهو يعلن الحرب على السعودية