في لبنان، حيث تتداخل الأبعاد الدينية مع الهويات السياسية، يبقى عيد مار مارون محطة سنوية تتجاوز إطارها الطائفي، لتشكل مساحة جامعة تلتقي فيها الروح الوطنية مع رمزية الوحدة، بين مكونات البلد المتعدد الطوائف والانتماءات. فهذا العيد لا يقتصر على الموارنة وحدهم، بل يُكرس في الوجدان اللبناني كفرصة تجسّد قيم الانفتاح والتلاقي بين مختلف المذاهب، حيث يشارك فيه المسلمون والمسيحيون على حد سواء، والموارنة كما الأورثوذكس والكاثوليك وسائر الفرقاء، تأكيداً على أن لبنان رغم تنوّعه، يبقى كياناً موحّداً بقيمه الوطنية.
وتحل هذا العام المناسبة بالتزامن مع توقيت مفصلي يحمل أبعادا سياسية عميقة، إذ يحتفل بها لبنان للمرة الأولى منذ أكثر من سنتين وشهرين تقريبا في ظل رئيس جديد للجمهورية، والرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، الذي باتت حكومته شبه مكتملة قبل ساعات من إعلانها رسميا.
وإذا كان العيد في معناه الديني فرصة للخشوع والتأمل، فإنه في بعده السياسي هذا العام يتحوّل إلى لحظة اختبار لمعادلة الحكم الجديدة: هل يمثل هذا الانتظام المؤسساتي بداية، لاستعادة الدولة هيبتها؟ أم أنه مجرّد محطة بروتوكولية لا تغير في واقع الأزمات المستعصية؟
تلاقٍ وطني أم توازن شكلي؟
وفي هذه المحطة الايمانية، يشير مصدر سياسي بارز لـ "الديار" الى ان "عيد مار مارون لطالما شكّل مساحة جامعة لكل اللبنانيين، لكنه يكتسب هذا العام دلالات مضاعفة، إذ يأتي بعد مرحلة طويلة من الفراغ والتعطيل، ليجمع أركان السلطة حول مذبح الكنيسة. لذا، تحمل هذه الصورة بحد ذاتها رمزية قوية. فلبنان لا يمكن أن يُحكم إلا بروح التوافق، ولا يمكنه النهوض إلا بوحدة وطنية حقيقية". لكنه يستدرك بالقول: "اللقاء في الكنيسة جميل، لكن الأهم هو ما بعده. وبالرغم من التشنجات السياسية بسبب الظروف التي مر بها البلد مؤخرا، الا ان الجميع يسعى الى انقاذ ما تبقى من هيبة المؤسسات الرسمية.
فهل سيتمكن رئيس الجمهورية الجديد، ومعه الرئيس المكلّف، من ترجمة هذه الروح الجامعة إلى خطوات فعلية، تنهي حالة الانقسام والتشرذم؟ أم أن ما نراه مجرد لحظة احتفالية سرعان ما تعود بعدها الخلافات إلى الواجهة؟"
البطريركية المارونية الثابتة في زمن المتغيرات
لقد بات راسخاً انه لطالما كانت بكركي، ممثلة بالبطريركية المارونية، لاعباً أساسياً في رسم معالم لبنان السيادي، الذي يقوم على فكرة الدولة الجامعة لكل أبنائها، وليس على المحاصصة الطائفية الضيقة. وكان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي من أبرز الداعين إلى الحفاظ على وحدة لبنان، وإلى حياده الإيجابي في الصراعات، التي مزّقت نسيجه السياسي والاجتماعي. واليوم، يأتي هذا العيد ليذكّر اللبنانيين بأن هويتهم الوطنية هي الأساس، وأن السياسة رغم تعقيداتها، لا ينبغي أن تُضعف الروابط الجامعة بينهم.
وبموازاة مشهد سياسي يراوح بين الأمل والحذر، وبين اكتمال السلطة شكليا واستمرار التحديات فعليا، يبقى السؤال الأساسي: هل يحمل عيد مار مارون هذا العام بارقة تغيير حقيقية؟ أم أن التلاقي في الكنيسة سيظل مجرد صورة لا تمتد إلى عمق الواقع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه اللبنانيون؟
محطة تحمل دلالات عميقة
حول علاقة الموارنة بالدولة والسلطة
في ضوء هذه الأجواء الإيجابية التي تسود البلاد، بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله والعدو الاسرائيلي، يعيش لبنان لحظة مفصلية من تاريخه، من خلال استعادته الحدّ الأدنى من الانتظام الدستوري، عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة. لكن أبعد من ذلك، تحمل هذه المحطة في جوهرها رمزية تتخطى البعد الديني إلى ما هو أعمق: فهي فرصة توحّد اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم، في بلدٍ اعتاد أن تكون المناسبات الدينية منصات لقراءة المشهد السياسي من زوايا متباينة.
اما على الصعيد الايماني، فقد عاش القديس مار مارون المؤسس الروحي للكنيسة المارونية، في أواخر القرن الرابع الميلادي زاهدا متنسكا، متخليا عن الأطر التقليدية للأديرة، حيث اختار ان يحيا في العراء متأملًا في الطبيعة، متفرغا للصلاة والتقشف. لم يكن مجرد ناسكٍ منعزل، بل تحوّلت تعاليمه إلى مدرسة روحية اجتذبت أتباعا كثر، ليؤسسوا لاحقا الكنيسة المارونية، التي لم تكن مجرد كيان ديني، بل أدّت دورا سياسيا بارزا، خاصة بعد انتقال الموارنة إلى جبال لبنان، وتبنّيهم مفهوم السيادة والاستقلالية.
من هنا، أصبح هذا الحدث ليس مجرد احتفال ديني، بل محطة تحمل دلالات عميقة حول علاقة الموارنة بالدولة والسلطة، التي لطالما تراوحت بين التعاون والصدام من اجل المحافظة على هيبة الادارات العامة، وبين التمسك بالاستقلالية والسعي إلى الحضور السياسي الفاعل.
البعد السياسي للاحتفال
انتظامٌ هش أم حقبة جديدة؟
انطلاقا من كل ما تقدم، لا شك انه في بلدٍ يشكّل رئيس الجمهورية الموقع الماروني الأعلى في الدولة، لا يمكن فصل الاحتفالات الدينية عن السياسة، خصوصا في ظل أزمات متلاحقة جعلت الفراغ أكثر حضورا من المؤسسات نفسها.
فبعد أزمةٍ رئاسية كادت تفقد لبنان ما تبقّى من استقراره السياسي، يأتي هذا العيد ليشهد على اكتمال السلطة نظريا، لكن السؤال الأهم: هل مجرد انتخاب رئيس وتكليف رئيس حكومة يعني استعادة التوازن الفعلي؟ أم أن الدولة لا تزال عالقة في مشكلاتها العميقة؟
لبنان وساحة التفاعل المستمر
يقول مصدر في ابرشية بيروت المارونية لـ "الديار" إن "حضور أركان الدولة في قداس مار مارون، يبعث برسالة استقرار ورغبة في انتشال هذا الوطن من قعر الفساد السياسي والمالي، لكنه لا يحلّ المعضلات الاقتصادية بشكل جذري، ولا يعيد الثقة بين السلطة والشعب، وانما قد يكون ممهدا لهما. لذا، فان التزامن بين العيد وانتظام الدولة هذه المرة، ليس مجرد صورة شكلية، مما يعني ان هذه العودة ستُترجم إلى حلول ملموسة تضع لبنان على سكة التعافي الحقيقي".
ويضيف المصدر "لطالما كانت الكنيسة المارونية لاعبا محوريا في الوضع اللبناني، حيث لم تقف يوما عند حدود الدور الروحي، بل كانت حاضرة في محطات مفصلية، سواء في مواجهة الاحتلالات أو في التصدي للأزمات الدستورية. واليوم، مع حلول عيد مار مارون وسط هذا المشهد المتداخل، يبدو واضحاً أن رمزية المناسبة تتعدى مجرد الاحتفال الديني، لتمتد إلى قراءة أوسع حول مستقبل السلطة، في بلد لا تزال التوازنات فيه هشّة، والمخاض السياسي فيه طويلا".
في الخلاصة، يمثل هذا الاحتفال مناسبة دينية هامة للكنيسة المارونية في لبنان، وهو ليس مجرد تكريم روحي فحسب، بل يتعدى ذلك ليحمل في طياته رمزية سياسية عميقة. ففي كل عام، تُعرض ذخائر القديس مار مارون في قلب مذبح الكاتدرائية خلال القداس، ما يعكس بعداً روحانياً عميقاً، ويُظهر استمرارية وجود الكنيسة المارونية كمؤسسة دينية راسخة في حياة اللبنانيين، على اختلاف توجهاتهم السياسية والطائفية. لذلك، تعد هذه الذخائر علامة على صمود لبنان في وجه التحديات العديدة التي يواجهها، في وقت يعاني فيه البلد من أزمات اقتصادية وسياسية معقدة.
ولبنان، الذي يخوض صراعاً مريراً على مختلف الأصعدة، يسعى من خلال هذه المناسبة إلى استحضار البركة للخروج من "درب الجلجلة" الذي يسلكه منذ سنوات، في ظل تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، وبخاصة الحرب الأخيرة التي شنها العدو "الإسرائيلي" على الوطن. لكن يبقى السؤال قائماً: هل تكفي الرمزية وحدها لصنع التغيير الحقيقي؟ أم أن هذا الحضور السياسي تحت قبة الكنيسة، سيظل مجرد بروتوكول تقليدي، لا يُحدث أي تغيير في واقع الأزمات المتفاقمة التي يعاني منها لبنان؟
وفي النهاية، يظل التحدي الأكبر هو تحويل هذه الرمزية إلى حلول ملموسة وفعّالة تعيد الثقة بين اللبنانيين ومؤسسات الدولة. فرغم أن هذه المناسبات تعزز الأمل وتُظهر الوحدة، فإن البلد بحاجة ماسة إلى التغيير الجذري على الأرض، لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي طال انتظاره.
يتم قراءة الآن
-
الكلام الأميركي تفجيري وغير مسبوق... عون: لا يعنينا الأنظار الى لقاء بري وأورتاغوس... والثنائي يردّ في 23 شباط مُسلحو «هيئة تحرير الشام» قصفوا قرى حدوديّة بالمسيّرات... قتلى وجرحى
-
الشيعة في خطر... لبنان في خطر أيها الرئيس أيّها الشيخ لا تشاركا في الحكومة
-
نتنياهو يعلن الحرب على السعودية
-
ياسين جابر: في جعبتي 73 قانوناً
الأكثر قراءة
-
الحدود الجنوبية والشرقية «قنبلة» موقوتة في طريق الحكومة اسرائيل تروّج لتأجيل جديد ولبنان ينتظر الموقف الاميركي! الجيش يرفع جهوزيته بقاعا وتهجير للبنانيين من داخل سورية
-
14 شباط 2025 : اولى خطوات العودة... هذا موعد الوصول والمغادرة واجندة اللقاءات
-
الكلام الأميركي تفجيري وغير مسبوق... عون: لا يعنينا الأنظار الى لقاء بري وأورتاغوس... والثنائي يردّ في 23 شباط مُسلحو «هيئة تحرير الشام» قصفوا قرى حدوديّة بالمسيّرات... قتلى وجرحى
عاجل 24/7
-
23:27
وزير الخارجية المصري يبحث مع مستشار الأمن القومي الأميركى والمبعوث الأميركي للشرق الأوسط مستجدات الأوضاع في المنطقة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي
-
23:10
أ ف ب: إسرائيل تعلن عزمها على تعزيز قواتها بشكل كبير حول غزة
-
23:10
أ ف ب: مصر تعبّر عن رفضها أي "مساس" بحقوق الفلسطينيين
-
22:59
جيروزاليم بوست عن مسؤول إسرائيلي: موقف حماس رسالة إلى ترامب أنه مخطئ إذا اعتقد بعدم وجود مرحلة ثانية
-
22:30
أ ف ب: حماس تقول أنها منحت الوسطاء مهلة لدفع إسرائيل "للالتزام" ببنود اتفاق وقف النار
-
22:28
الجيش الإسرائيلي نفّذ تفجيرًا كبيرًا داخل بلدة ميس الجبل
![](https://static.addiyar.com/css/images/whatsapp_banner_new.jpg)