اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لا ندري اذا كان هذا قدرنا الجغرافي المستحيل، أم قدرنا التاريخي المستحيل. لبنان بين دولتين: الأولى شقيقة ولا تعترف به كدولة الا لرفع العتب، والثانية دولة عدوة ولا يعترف بها. كل واحدة منهما تريد أن يكون لبنان تابعاً لها...

لهذا نحن معنيون، وحتى ببقائنا، بنوع النظام في سوريا،  وبنوع النظام في "اسرائيل". الاثنان يتقاطعان بالبنية الايديولوجية التي تقوم على التأويل الدموي للنص الديني. لنكون وكما قلنا سابقاً، ان في مهب الرياح أو في مهب الحرائق.

كيف يمكن أن نكون في دولة تقوم على تلك الاشكالية الفلسفية "قوة لبنان في ضعفه" ، لكأن الشيخ بيار الجميل الذي أطلق الشعار لم يقرأ قول القديس Saint Nicolas De Flue  لبني قومه "اذا كنتم تريدون البقاء سويسريين، ابدأوا بتشييد الأسوار حول حدائقكم"، المقصود واضح. قطعا ً لم نبن الأسوار حول هذه الجمهورية التي، وبعد أكثر من مائة عام من نشوئها، ما زالت تتأرجح بين لعبة الأمم ولعبة القبائل في الداخل، وهنا الفجيعة الكبرى بين الطوائف.

كان الرئيس فؤاد شهاب الذي حاول بناء دولة قابلة للحياة، لا مشرعة للأزمات وللتسويات، يردد أمام زواره المبدأ الرومانيSalus Patriae suprema lex، أي "سلامة الوطن هي القانون الأسمى". هذا في دولة لا يضعها ساستها في المزاد العلني...

الآن، سوريا في حال المخاض الصعب وجودياً يعنينا ما يحدث هناك. كلمة "الثورة" فضفاضة جداً، وساذجة (أو خادعة) جداً. الانتقال من نظام توتاليتاري يفتح الزنزانات أو القبور في وجه معارضيه الى أي طائفة انتموا، (والدليل في العلويين البارزين صلاح جديد ومحمد عمران وغيرهم...)، الى نظام ثيوقراطي يفتح القبور دون الزنزانات، الى كل من ينتمي الى طائفة أخرى أو الى أي اتجاه آخر داخل الطائفة الحاكمة.

المرصد السوري لحقوق الانسان، وكان المعارض الشرس للنظام السابق، أحصى عدد القتلى (العلويين بوجه خاص) منذ قيام الادارة الجديدة بـ6316، بينهم 4711 مدنياً، 4172 رجلاً وشاباً، 345 امرأة، 194 طفلاً...

لا شيء تغير في التعامل العثماني مع الشعوب العربية،  فرّق تسد"، ولا شيء تغير في التشكيل القبلي للعقل (السياسي) العربي. المرصد اياه تحدث عن "تورط فرق أمن سيبراني مقيمة في دولة عربية في تزوير وقائع مجزرة الساحل، عبر شن حملات ممنهجة لتعطيل ردود الفعل الدولية، ولطمس ادلة الابادة الجماعية". انه الأسلوب "الاسرائيلي" اياه. كيف يتم تحويل القتلة أمام الرأي العام الدولي الى قتلى.

تفاصيل ما تقوم به تلك الفرق مروعة فعلاً، وتتيح المجال أمام مذابح أخرى قد تكون أشد هولاً. الأقليات في سوريا تعيش حالة من الرعب الذي لا يمكن تصوره. ولقد رأينا نموذجاً لهمجية "مقاتلي وزارة الدفاع" في بلدة حوش السيد علي الللبنانية، حيث ذبحوا من ذبحوا. وعلى الطريقة "الاسرائيلية" أحرقوا البيوت دون أن ينسوا كتابة آيات قرآنية على الجدران، كما لو أن القرآن نزل كما التوراة، لتسويق لوثة الدم...

ما جرى على الحدود محاولة أيضاً على الطريقة "الاسرائيلية" لاقامة منطقة عازلة، تكون نقطة الانطلاق لما في رأس أحمد الشرع (أم في رأس رجب طيب اردوغان؟). مشكلتنا أن سوريا تلتف حول لبنان بحدود برية يبلغ طولها 370 كيلومتراً من أصل نحو 450 كيلومتراً، كما أنها الطريق البري الوحيد الى الداخل العربي، كما الى أوروبا وآسيا. هذا ما يجعل لبنان ايضاً رهينة مزاجية النظام في سوريا. ذات يوم هدد اديب الشيشكلي الرئيس كميل شمعون بأن يدمر قصر بيت الدين فوق رأسه، ان لم يفرج عن سوري متهم بعملية اغتيال على الأرض اللبنانية.

صحافية سورية باتت من زوار القصر سألتني "ما دام الشبح الايراني لم يعد موجوداً فوق رؤوسكم، لماذا لا يزور رئيس جمهوريتكم ورئيس حكومتكم دمشق، بدل التخاطب من وراء الزجاج"؟ هل هي العودة الى القرن السابع عشر لتقديم فروض الولاء للوالي العثماني؟

لا يحق لنا الاعتراض على الصلاحيات الالهية التي أناطها الاعلان الدستورية بالشرع، ولخمس سنوات قد تمتد، وكما النظام السابق، الى أكثر من خمسين عاماً. لا مجال لقيام دولة ديموقراطية في العالم العربي ما دام أولياء الأمر، وكذلك الأوصياء على أولياء الأمر، ينظرون الى رعاياهم كقطعان من الماعز. ولكن أين هي الحكومات العربية والغربية (وتركيا في الطليعة) التي كانت تشترط للانفتاح على بشار الأسد، اعادة هيكلة السلطة باشراك القوى المعارضة في العملية السياسية، تحقيقاً للديموقراطية والعدالة والحرية.

لبنان، كظاهرة يعود تقديروضعها ودورها للقدر، بين الحالة "الاسرائيلية" في ذروة جنونها والحالة السورية في ذروة هذيانها. أكثر من تكون الكوميديا اللبنانية، التراجيديا اللبنانية، حين نرى من كانوا ضد النظام التوتاليتاري (المتعدد الطوائف) في سوريا، باتوا مع النظام الثيوقراطي (الأحادية الطائفية) في سوريا، بتداعياته على الساحة اللبنانية التي في اقصى حالات الهلهلة السياسية والطائفية. لا نتصور أن هذه الطريقة في الانتقال يمكن أن تنسحب ولو قيد أنملة على مَن هم ضد "اسرائيل".

ما دام ذلك الاصرار في ثقافتنا اليومية، وبأمر من فقهائنا الأجلاّء، على نبش القبور، لندع الزمن يمضي بنا  كما من ألف عام الى العصر الحجري...

الأكثر قراءة

لبنان في مهب التصعيد الأميركي ــ الإسرائيلي: تكثيف الضغوط النار تحت الرماد شرقا وحزب الله يدعو للالتفاف حول الجيش إقرار آلية التعيينات ولا توافق على الحاكم..عون: ننتصر معًا