اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لبنان كيان ثقافي لا ينحكم للطغيان

جعل الفقه الحقوقي الدستوري للدولة كل دولة ثلاثة أركان: الشعب والإقليم والسيادة.

وشرح الفقهاء العلاقة الحيوية بين الأركان بأنها شعب يقيم على إقليم يملكه ويختار سلطة يفوض إليها ممارسة سيادته على إقليمه وإزاء نظرائه.

مصطلح ركن الإقليم أكثر صوابا من مصطلح ركن الأرض في الدول المتصلة بالبحر فالإقليم يشمل البر والبحر والفضاء.

أما ركن السيادة فيختلف إنشاء سلطته بين شعب يبايع عاهلا سلطانا أو ملكا أو أميرا وشعب ينتخب سلطته وفق الأصول الديمقراطية وشعب يأخذ بالأمرين معا على أن معيار رضا الشعب هو أساس شرعية العاهل أو الرئيس أي شرعية الحكم والحاكمين.

فما هو الشعب؟

إنه جماعة بشرية متعارفة تعارفا وثيقا ينشئ ثقافة عامة ثم هوية وطنية.

في أدبيات جامعة الدول العربية مصطلح شعوب الأمة العربية، وفق هذا المصطلح لكل بلد عربي شعب والمجموع يشكل أمة.

في كل هوية وطنية رابطتان هما رابطة الدم بفعل التناسل ورابطة الثقافة بفعل التعارف. ما هي الثقافة؟ يوجد إنسان غير متعلم ولا يوجد إنسان غير مثقف.

يختزن الطفل منذ ولادته ما تتقبله فطرته من صور وأصوات وكلام وأنغام. ينمو الطفل مستزيدا من معارف أمه وأبيه وسائر ذويه وأقاربه وجيران أهله. فالتثقف يبدأ في البيت والتعلم في المدرسة. في المدرسة رافدان لثقافة الطفل هما الآداب والعلوم في الصف والتبادل الثقافي بين التلاميذ في الملعب كل بما تزود به من تربية وحتى ما تزود به من طعام.

في التاريخ أمثلة على عباقرة لم يدخلوا مدرسة ومنهم من دخل مدرسة ثم طرد منها فأبدع خارجها لأنه لم يجد في التعلم المدرسي ما يثقف جينات النبوغ في فطرته فلا هو أحب المدرسة ولا هي أحبته.

التعلم يحتاج إلى صفوف وشهادات أما التثقف فليس له صفوف وشهادات وعندما يسأل كاتب عن دور المثقفين في المجتمع فالجواب أنه دور جميع أفراد المجتمع. فدور الكتاب والأدباء والشعراء والعلماء ليس دور المثقفين بل دور نخبة المتعلمين وربما المتفكرين.

الثقافة اللبنانية: مرت الثقافة اللبنانية بمرحلتين الأولى قبل الأديان السماوية والثانية بعدها.

ازدهرت الثقافة اللبنانية في العصر الفينيقي بفعل الحضارة التي طورها اللبنانيون ثم أوصلوها إلى شعوب البحر الأبيض المتوسط بفعل التبادل التجاري ثم إلى أبعد من حوض البحر واستطاعوا عولمة الثقافة اللبنانية وجعلها أكثر عمقا لأنهم حيث يحلون يتبادلون الثقافة مع التجار والصناع والأهالي. الحقبة الفينيقية كانت ثورية في الزراعة والصناعة والتجارة وكانوا كالمستعمرين المسالمين ترحب بهم الشعوب وتقايض معهم السلع والمعارف الأدبية والعلمية مما أغنى ثقافتهم.

الأديان السماوية أسبغت على الثقافة اللبنانية نعمة الإيمان وهي أهم النعم تأثيرا في السياسة والإجتماع لأن الإيمان يجعل الإنسان يشعر بأن ثمة سلطة عليا أقوى منه فينظر إلى نفسه بموضوعية ويتواضع أمام المبادئ والقواعد والحقوق وأصحابها ومن نتائج الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر حيث الثواب والعقاب. هكذا صقلت الأديان المجتمع وجعلته في علاقاته الداخلية والخارجية يسعى إلى الثواب ويجتنب العقاب. فالأديان أبقت على قواعد القانون الطبيعي وأضافت إليها القصاص والمكافأة. الثقافة العامة اللبنانية وفق ما تقدم ثقافة بدأت بسيطة متوسطية ثم تحولت إلى ثقافة مركبة لأن الدين المسيحي والدين الإسلامي جعلاها تأخذ منهما وتضيف إلى أساسها قبل الأديان.

التفاعل بين السياسة والثقافة:

منذ استقل لبنان في 22 تشرين الثاني سنة 1943 لم يهتد اللبنانيون إلى نظام حكم ذاتي مستقل ينبع من ثقافتهم المشعة في الخارج والمكبوتة في الداخل.

وليت اتفاق الطائف إذ تضمن المناصفة كما حددها بين المسلمين والمسيحيين قد تضمن المناصفة بين المقيمين والمغتربين.

الثقافة لا تحترم نظاما جبانا ولا نظاما متهورا ولا نظاما يسعى إلى التقدم فيهمل الإستقرار ولا نظاما يسعى إلى الإستقرار فيفوته التقدم. وقد جرب اللبنانيون تلك الأنماط كلها فخسروا الإستقرار والتقدم معا بل وجدوا أنفسهم في نظام جامد رجعي متخلف ميؤوس منه كاد يوصلهم إلى الكفر بوطنهم لولا ثقافتهم الرادعة لليأس والكفر والتخلف. يقال أن اللبنانيين يتكيفون مع الواقع. هذا صحيح في الخارج حيث الإحترام متبادل بينهم وبين نظرائهم من أهالي البلدان وسلطاتها. أما في الداخل فهم يبدون متكيفين لكنهم في حقيقة الأمر يكونون ساعين إلى فهم الواقع المستجد لإبتكار وسائل تكييفه معهم.

اللبنانيون أذكياء قد يصفقون لمحتال وهم يعلمون أنه يخدعهم لعله يصطلح ولعلهم يتقون شر خداعه. وإذا غلب الفساد شخصا لبنانيا واضطره إلى دفع رشوة لسياسي أو موظف فإنه بعد أن يدفع يخبر أهله ومعارفه كم دفع ولماذا ولمن دفع لأن ثقافته الأصيلة تمقت الفساد وتدعوه إلى التشهير بالفاسد ولو قال على سبيل الحنكة والسخرية: فلان خدوم.

لقد تبين أن فرض الإستقرار بالقوة والطغيان كان هدفه إستقرار أرباب السلطة فقط رغم انهيار بيت المال العام وبيوت المال الخاصة (الودائع) وإفقار غالبية الشعب وهجرة أدمغة وسواعد في حين أن التقدم المتزن بالإصلاح والتطوير كان أفضل لاستقرار العباد والبلاد. الثقافة دائمة التطور خصوصا في هذا العصر فإذا ابتليت البلاد بسلطة جامدة ترفض التطور سقط كل شيء في المجتمع إلا الثقافة التي فيها المخارج من الأزمات.

وألد أعداء الثقافة اللبنانية هو إنتخاب نواب مذاهب بدلا من نواب مواطنين إذ أنه يعيد أذهان المسلمين يوم الإنتخاب إلى زمان معركة صفين ويعيد أذهان المسيحيين إلى زمان خوف الأقليات على نفسها فيما المسلمون والمسيحيون يوم الإنتخاب هم مواطنون لبنانيون متساوون في الحقوق والواجبات محبون للعيش معا كارهون لما يقسمهم إلى عصبيات عنصرية ترى كل منها أشرارها خيرا من أخيار غيرها.

نحو نظام أفضل يتبع في جزء قادم.

* سفير متقاعد


الأكثر قراءة

الجيش يرفع الصوت: إنتهاكات إسرائيليّة فاضحة... ولوقف النار تحرّك أميركي خلال أيّام على خط بيروت ــ تل أبيب لودريان في بيروت الثلاثاء... وتوجه لتعيين حاكماً للمركزي هذا الأسبوع