اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


تعتبر الكحول من المواد المؤثرة في الجهاز العصبي المركزي، وهو يُستهلك على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم، رغم ما يُشكّله من مخاطر صحية ونفسية على الإنسان. وفي مقدمة الأعضاء التي تتأثر بالكحول يأتي الدماغ، حيث يُحدث تناول الكحول تغيرات واضحة في وظائف الدماغ على المدى القصير والطويل، مما ينعكس على التفكير، والسلوك، والذاكرة، بل وقد يؤدي إلى تلف دائم في بعض الأحيان.

عند شرب الكحول، تبدأ تأثيراته بالظهور سريعًا، إذ يتسلل إلى مجرى الدم ويصل إلى الدماغ خلال دقائق. في البداية، قد يشعر الشخص بحالة من الاسترخاء أو النشوة المؤقتة، وذلك بسبب تثبيط الكحول للنشاط العصبي في بعض مناطق الدماغ المسؤولة عن التحكم والوعي. إلا أن هذه الحالة سرعان ما تتطور إلى فقدان للتركيز، وبطء في ردود الفعل، وصعوبة في اتخاذ القرارات، وهي مؤشرات واضحة على تأثير الكحول المباشر في الفص الجبهي من الدماغ.

ومع الاستمرار في استهلاك الكحول على مدى زمني طويل، تبدأ التغيرات البنيوية والوظيفية بالظهور. تشير الدراسات إلى أن الكحول يمكن أن يتسبب في تقلص حجم الدماغ، وبخاصة في المناطق المرتبطة بالذاكرة والتعلم. كما يُضعف الكحول الاتصالات العصبية بين الخلايا العصبية، مما يؤدي إلى ضعف القدرة على التذكر والمعالجة المعرفية. ولا تقتصر هذه التأثيرات على مدمني الكحول فقط، بل يمكن أن تظهر لدى الأشخاص الذين يستهلكونه بشكل معتدل ولكن منتظم.

واحدة من أخطر نتائج تعاطي الكحول المزمن هي الإصابة بما يُعرف بـالاعتلال الدماغي الكحولي، وهي حالة تنتج عن نقص في فيتامين "B1" (الثيامين) بسبب تأثير الكحول في امتصاصه، وتُؤدي إلى تلف في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة. وقد يتطور الأمر إلى متلازمة فيرنيكي- كورساكوف، وهي حالة عصبية مزمنة تتميز بفقدان شديد للذاكرة، وصعوبة في تكوين ذكريات جديدة، مع هلوسات وخلل في التوازن.

هذا ولا يغيب عن البال أن الدماغ في فترة المراهقة والشباب يكون في مرحلة نمو وتطور مستمر، ما يجعله أكثر حساسية وتأثرًا بالتغيرات الكيميائية التي يُحدثها الكحول. فخلال هذه المرحلة العمرية الحرجة، تستمر مناطق رئيسية من الدماغ، مثل الفص الجبهي المسؤول عن اتخاذ القرار، وضبط السلوك، والتفكير المنطقي – في التطور حتى منتصف العشرينات. وعند تعاطي الكحول خلال هذه الفترة، قد يعوق هذا التطور البنيوي والوظيفي، مؤديًا إلى خلل دائم في القدرات المعرفية والإدراكية، مثل التركيز والانتباه والتخطيط للمستقبل.

وتُظهر الدراسات أن المراهقين الذين يبدؤون بتعاطي الكحول مبكرا، يكونون أكثر عرضة للوقوع في دائرة الإدمان لاحقًا، مقارنةً بمن يتأخرون في تجربته أو يتجنبونه كليًا. كما أن تعرض الدماغ النامي لتأثيرات الكحول قد يؤثر سلبًا على الصحة النفسية والاجتماعية، فيُضعف من مهارات التواصل، ويزيد من السلوكيات الاندفاعية والخطرة مثل القيادة تحت تأثير الكحول، أو الدخول في علاقات مؤذية وغير آمنة. ومن هنا، فإن الضرر لا يقتصر فقط على الجانب العضوي، بل يمتد إلى مستقبل الفرد وسلوكه الاجتماعي.

إلى جانب هذه التأثيرات البنيوية والسلوكية، يتسبب الكحول أيضًا في اضطرابات النوم التي تؤثر بشكل مباشر على وظائف الدماغ واستعادته اليومية لنشاطه، إضافة إلى تأثيره في إفراز النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، وهما مرتبطان بتنظيم المزاج والمشاعر. هذا الخلل في التوازن الكيميائي قد يؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة بالقلق، الاكتئاب، واضطرابات الشخصية، وهو ما يُلاحظ بشكل متزايد لدى الشباب الذين يفرطون في شرب الكحول كوسيلة للهروب من الضغوط النفسية أو الاجتماعية.

ولا تقتصر هذه الأضرار على المدى القصير فحسب، بل تشير الأبحاث إلى أن تعاطي الكحول المزمن في سن مبكرة يُضاعف من خطر الإصابة بأمراض دماغية خطرة لاحقًا، كالسكتات الدماغية، والخرف المبكر، وحتى التدهور المعرفي في مراحل عمرية لا يُفترض أن تشهد مثل هذه التغيرات. وتتفاقم هذه المخاطر عندما يقترن الكحول بعوامل صحية أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم، داء السكري، أو السمنة، ما يجعل تأثيره مركبًا ومدمرًا على المدى البعيد.

في ضوء ما سبق، تتضح الصورة القاتمة التي يُشكّلها تعاطي الكحول على الدماغ، خاصةً في مرحلة المراهقة والشباب التي تُعدّ حجر الأساس لبناء مستقبل صحي ونفسي سليم. ولذا، فإن الوقاية والتوعية بأضرار الكحول لم تعد خيارًا بل ضرورة ملحّة، تتطلب تضافر الجهود بين الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والهيئات الصحية، لحماية الأجيال القادمة من الوقوع في براثن الإدمان وتبعاته المدمرة. فكل خطوة نحو التوعية هي خطوة في طريق الحفاظ على العقول قبل الأجساد، وعلى مستقبل المجتمعات قبل أفرادها.

الأكثر قراءة

الفاتيكان يكشف سبب وفاة البابا فرنسيس