اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


قبل اعادة هيكلة أي قطاع آخر، اعادة هيكلة التشكيل السوسيوسياسي للدولة اللبنانية، والذي يتأرجح بين الزبائنية بأقصى بشاعتها، والطائفية بأقصى بشاعتها. المثال في الصفقة التي جعلت أحد الأطراف السياسية يقبل اسناد حقيبة المالية الى شيعي، واسناد حقيبة الخارجية الى ماروني، دون أي اعتبار لما تعنيه السياسة الخارجية في الظروف التي تعصف بلبنان، بل بسائر أرجاء المنطقة.

هكذا بالزبائنية وبالطائفية، يتم ابعاد غسان سلامة عن وزارة الخارجية، وهو الرجل الذي يستوعب بالحنكة وبالحكمة، الوضع الداخلي والوضع الاقليمي والوضع الدولي، دون أن يأتي من الخندق أو من الفضيحة. أتى من أرقى المحافل الدولية بثقافة ورؤية استثنائية. وكنت قد زرته في التسعينات من القرن الفائت، حين كان يقطن على مقربة من مقر عملي في منطقة الحمراء. أطلعني على مقالة له في دورية Politique international.

كان يكتب في هذه الدورية في صحف عالمية، بلغة تضاهي لغة كبار علماء السياسة في الغرب،  بعيداً عن أي هوى أو عن أي من الأوبئة القبلية أو الطائفية، التي تضرب مجتمعات الشرق الأوسط. غسان سلامة أهم بكثير من أن تعنيه الطائفة والطائفية، وأهم بكثير من أن يكون معلباً، كما الحال في بعض الأحزاب، حيث تنتفي كلياً دينامية العقل ودينامية المنطق، فضلاً عن دينامية الرؤية.

وزير الثقافة قضى نحواً من ساعة مع مورغان أورتاغوس في المتحف الوطني، كانت كافية لاضاءة محطات محورية في المسار السياسي والمسار التاريخي للدولة اللبنانية، وهي التي التقت بوزراء آخرين عملوا في شركات أميركية كبرى، أو تخرجوا في جامعات أميركية كبرى، لكنه الزمن الأميركي. هاجسنا ألّا يكون الزمن "الاسرائيلي"، بعدما لاحظنا ونلاحظ كل يوم من هم قادة "اسرائيل"، وكيف حولوا حتى الله الى قاتل.

أورتاغوس، وبطلب من رئيسها ستيفن ويتكوف، الذي لاحظ أنها بدت في زيارتها الأخيرة لبيروت كما لو أنها مبعوثة "تل أبيب" لا مبعوثة واشنطن، لم تتفوه بأي كلمة أمام الاعلام، وان كانت قد كررت طروحاتها السابقة، ولكن بلغة ديبلوماسية لا بلغة قطّاع الطرق. غسان سلامة استغرب كيف يفترض بالطرف اللبناني فقط أن يتقيد ببنود اتفاق وقف النار، وكيف تفرض عليه المهل فقط، في حين أن الطائرات "الاسرائيلية" لم تتوقف عن غاراتها وعن عمليات الاغتيال، بعدما دمرت دباباتها ومتفجراتها، عقب نفاذ الاتفاق، كل أثر للحياة في البلدات الحدودية، دون أن يصدر عن واشنطن الضامنة له أي اعتراض. على العكس من ذلك، أبدت تأييدها المطلق لما تفعله "اسرائيل".

اذا كان العالم لا يستطيع أن يتحمل جنون دونالد ترامب، كيف يستطيع الشرق الأوسط أن يتحمل جنون بنيامين نتنياهو؟ ما يستشف من مقالات بعض المعلقين الأميركيين البعيدين  بشكل أو بآخر عن تأثير اللوبي اليهودي، أن وكالات الاستخبارات الأميركية تدعو الى عدم الانجرار (ميكانيكياً) وراء سياسات نتنياهو، في ظل التصدع السياسي داخل "اسرائيل"، لا سيما في ما يتعلق بايران، التي أكدت تلك الوكالات أنها لا تصنع السلاح النووي، في حين أن زعيم "الليكود" يرى أن تغيير الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم الا بتقويض النظام هناك، حتى ولو اقتضى ذلك اللجوء الى الضربات النووية.

واشنطن استدعت نتنياهو على وجه السرعة الى البيت الأبيض. تكهنات كثيرة حول السبب. حتماً ليس من أجل البحث في موضوع التعرفات الجمركية، هناك الوضع في غزة ولبنان، كما أن هناك المسألة الايرانية، والى حد القول ان يوم لقاء الاثنين سيكون حاسماً بالنسبة الى بعض القضايا الساخنة في الشرق الأوسط.

وسائل اعلام أميركية تحدثت عن أن ترامب يريد أن يكون الملف الايراني في يده لا في اي يد أخرى. ثمة اتفاق بين البنتاغون ووكالات الاستخبارت حول هذه المسألة. لا انزلاق الى أي حرب مع ايران، مع اعتبار أن الغارات الجوية، بما فيها الغارات النووية (وهذا مستبعد أميركياً بالكامل)، قد تزيد في تعقيدات المشهد، ودون أي اتجاه للقيام بعملية برية ما بات مستحيلاً، بعدما أثنى ترامب على كلام الجنرال ديفيد بترايوس الذي رأى في الخروج الفضائحي من أفغانستان، الخروج مما دعاه "استراتيجية المستنقعات".

بترايوس، كقائد ميداني بارز، اعترف بأن العسكريين الأميركيين والأطلسيين على الأرض الأفغانية، تحولوا الى رهائن في قبضة هبة الله أخند زادة، زعيم حركة "طالبان".  الايرانيون بدورهم، لا يريدون الحرب لادراكهم مدى الاختلال، الاختلال المروع في موازين القوى، كما أن ضرب القواعد أو المصالح الأميركية في المحيط، سيحوّل الدولة المعنية الى دول معادية، وربما مشاركة في الحملة العسكرية.

مثل هذا الضجيج العسكري شاهدناه في الأشهر التي سبقت توقيع اتفاق فيينا عام 2015. لكن أموراً كثيرة تغيرت في الفترة الأخيرة، وأدت الى انحسار جيوسياسي ايراني كامل من المنطقة.

ثمة مدخنة في المكتب البيضاوي، من هناك ينبعث الدخان الأبيض أو الدخان الأسود، الجراحة الديبلوماسية أو الجراحة العسكرية. جوزف ناي، عالم السياسي الأميركي، لاحظ أن ترامب العاشق للدنيا، لا يريد الانتحار في الشرق الأوسط...

الأكثر قراءة

دونالد ترامب لا يريد الانتحار