اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

رحلة بين الإبداع البشري وخيال الذكاء الاصطناعي


في عام 2018، اهتز عالم الفن على وقع حدث غير تقليدي: لوحة تحمل توقيع خوارزمية تُباع في مزاد كريستيز الشهير مقابل 432,500 دولار. اللوحة المعنونةPortrait of Edmond de Belamy لم تكن من إنتاج ريشة فان غوغ أو مونيه، بل من خوارزمية ذكاء اصطناعي دربها فنانون من جماعة Obvious الفرنسية على آلاف الصور. المشهد أثار جدلًا واسعًا: هل هذا "فن حقيقي"، أم مجرد محاكاة بارعة تَعرف كيف تُرضي أذواقنا البشرية؟

هذا الحدث لم يكن مجرد مفارقة تكنولوجية، بل شرارة لسؤال فلسفي أعمق: هل تستطيع الآلة أن تُبدع؟ وهل ما تُنتجه هو ثمرة خيال فعلي، أم تكرار محسوب لما رأته من قبل؟ وهل نحن على مشارف مرحلة يُعاد فيها تعريف الفن، بل الإبداع نفسه، من جديد؟

كيمياء الإبداع: هل نولد مبدعين؟

تشير أبحاث علم الأعصاب إلى أن الإبداع البشري ليس مجرد ومضة غامضة، بل ظاهرة معقدة تنبع من تفاعلات بيولوجية وسلوكية عميقة.

في إحدى الدراسات اللافتة، أُجريت تجارب على فئران الحقل، وهي من القوارض التي تتسم بالإخلاص لشريك واحد، عبر تعديل مستقبلات عصبية محددة، حيث أظهرت الأبحاث أن كثافة مستقبلات الأوكسيتوسين في مناطق محددة من الدماغ، تلعب دورًا مهمًا في تكوين هذا النوع من الارتباط العاطفي، ونتج عن ذلك تغير ملحوظ في سلوكها الاجتماعي: من لا مبالاة إلى سلوك وفاء عاطفي يشبه ما نظنه حصريًا للإنسان.

هذا الاكتشاف يقودنا إلى سؤال: ما الذي يحدث عندما تتغير كيمياء الدماغ؟ وهل الإبداع بدوره يمكن أن يُفجّر بفضل تركيب بيولوجي خاص، كأن يمتلك شخص ما حساسية مفرطة لبعض النواقل العصبية أو نمطًا معينًا من الاتصال بين مناطق الدماغ؟ هل هناك "ندرة معرفية" تولد داخل الدماغ ذاته، تُحفّز لحظات الإبداع النادرة كما يحدث في لحظة التعلّق العاطفي النادر؟

ترى مارغريت بودين، وهي باحثة في علم النفس المعرفي، أن الإبداع يظهر بثلاث طرق رئيسية:

1. الإبداع التركيبي (Combinational Creativity): وهو إعادة تركيب أفكار أو عناصر موجودة من قبل بطريقة جديدة. مثل عندما تُمزَج آلات موسيقية من ثقافات مختلفة لإنتاج نوع موسيقي جديد، أو كما في اختراع "الرواية المصورة" التي جمعت بين الأدب والرسوم.

2. الإبداع الاستكشافي (Exploratory Creativity): وهو اكتشاف أفكار جديدة من خلال التجريب داخل نظام معين أو قواعد محددة. مثل تأليف قطعة موسيقية جديدة باستخدام قواعد الموسيقى الكلاسيكية، أو تصميم مبنى حديث يلتزم بقوانين العمارة التقليدية.

3. الإبداع التحويلي (Transformational Creativity): وهو تغيير جذري في الطريقة التي نفكر بها، بكسر القواعد المألوفة وتوسيع حدود النموذج نفسه. مثل ظهور الفن التجريدي الذي رفض التمثيل الواقعي تمامًا، أو اختراع الشعر الحر الذي كسر قواعد الشعر العمودي التقليدي.

إذا، نحن أمام مشهد تتصارع فيه تعاريف الإبداع نفسها: عالمة النفس بودين ترى فيه "قفزة" مفاجئة في إطار ممكنات معروفة، بينما تشير نظريات أخرى مثل "التدفق الإبداعي" لعالم النفس ميهالي إلى حالة ذهنية شبيهة بالذوبان الكامل في المهمة، حيث يفقد الفرد الإحساس بالزمن والذات. مدارس أخرى - كالسلوكية أو البيئية - تربط الإبداع بالظروف المحيطة، بالتحفيز، بالمحاكاة، أو بالتفاعل مع المحيط الثقافي والاجتماعي. كل هذه التصورات تشترك في شيء واحد: أن الإبداع فعل حي، يتضمن انفعالات وسلوكًا وتجربة.

وهنا يظهر الفرق الجوهري: الإنسان يتعلم من السلوك؛ من التفاعل، من المحاولة والخطأ، من التجربة الجسدية والعاطفية. أما الذكاء الاصطناعي، فهو يتعلم من النصوص، أي من انعكاسات التجربة، لا التجربة نفسها. الإنسان يختبر "الندم"، بينما الآلة تحلل "نتائج الندم". هذه الفجوة بين البيولوجي والإحصائي، بين الشعور والتكرار، بين المسار والنتيجة… هي ما يُبقي الإبداع البشري في مساحة لا يمكن للآلة أن تستحوذ عليها كليًا - على الأقل بعد.

الإبداع ليس لغزًا… لكنه ليس وصفة أيضًا

حين نحاول تعريف الإبداع، نُصاب بشيء من الحيرة. ما الذي يجعل عملًا فنيًا، أو فكرة علمية، أو حتى جملة شعرية… "مبدعة"؟ هل هو الجِدّة؟ الغرابة؟ الأثر النفسي؟

الحقيقة أن الإبداع لا ينبثق من العدم، كما لا يخضع لوصفة محددة. لا يمكننا أن نقول ببساطة: "أضف عنصر المفاجأة إلى فكرة مألوفة، تحصل على الإبداع!" فكما يقول الفيلسوف نيلسون غودمان، ليس كل جديد "إبداعيًا"، وليس كل مفاجئ "ذكيًا". الإبداع يحدث حين ينشأ انحراف خلاق عن المألوف، لكن دون أن يفقد تماسكه الداخلي أو صلته بالواقع.

خذ مثلًا قصيدة شهيرة لبول إيلوار حيث يقول: "الحرية، أَكتِبُ إسمَكِ." جملة بسيطة، لكنها تحمل طاقة رمزية كثيفة تتجاوز المعنى المباشر. هذا النوع من الإبداع لا يكمن فقط في البنية اللغوية، بل في القدرة على لمس وتر عميق داخل المتلقي.

وهنا نصل إلى المفارقة: إذا وضعنا مقياسًا ثابتًا للإبداع، قد نفقد جوهره. لأن الإبداع يتجاوز مجرد الناتج، ليصبح تجربة حسّية ومعنوية لا تقبل الاختزال في معيار رياضي أو خوارزمي. الغرابة وحدها لا تكفي. الجِدة وحدها لا تكفي. يجب أن يكون هناك شيء "يحرّك" الداخل.

من يمنح القيمة؟

تظل واحدة من أعمق المعضلات في عالم الإبداع هي: من يمنح العمل قيمته؟

فهل القيمة كامنة في العمل ذاته، أم في عيون من يراه؟ وهل الإبداع "صفة جوهرية"، أم "تسمية اجتماعية" تُمنح وفقًا لأذواق وتوجهات زمنية معينة؟

حسب نظرية شانون، تُقاس قيمة المعلومة بقدرتها على تقليل الغموض أو اللايقين (Entropy) في نظام معين. فكلما كانت المعلومة غير متوقعة أو نادرة الحدوث، زادت قيمتها المعلوماتية. بعبارة أخرى، ليست المعلومة ذات قيمة لأنها مثيرة أو معقدة، بل لأنها تُحدث فرقًا في توقعات المتلقي، وتقلص نطاق الاحتمالات الممكنة لما قد يحدث أو يُقال بعد ذلك. بهذا المعنى، تظهر القيمة كنتاج لتأثير المعلومة على السياق الإدراكي، لا كخاصية جوهرية فيها. فهل يمكن تطبيق المبدأ ذاته على الإبداع؟

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنتج لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية أو نصًا أدبيًا، ولكن: هل ستُمنح لهذه الأعمال قيمة حقيقية؟ أم أنها ستبقى محض محاكاة بارعة لما نعتقد نحن - كبشر - أنه مبدع؟

القيمة هنا تتجاوز الشكل، وتمتد إلى الأثر. الإبداع يخلق أثرًا وجدانيًا أو فكريًا، يفتح أسئلة، يُزعزع المسلمات، أو يوسّع آفاق الإدراك. ليست كل فكرة جديدة تُعتبر مبدعة، وليست كل فكرة غريبة تستحق الاحتفاء. فالفن العظيم، مثل قصيدة لدرويش أو لوحة لجبران، لا يُقاس فقط بجماله الأدبي أو البصري، بل بالمعنى الذي يخلقه فينا أو يوقظه.

وهنا يأتي مفهوم "اقتصاد الانتباه" كعدسة لفهم الإشكالية. في عصر تُقاس فيه الأعمال بعدد الإعجابات والمشاهدات، يُصبح "الضجيج" أحيانًا مقياسًا زائفًا للقيمة. قد ينجح عمل ما في اجتذاب الانتباه لكنه يفتقر إلى العمق. بينما هناك أعمال لا تُحدث أثرًا لحظيًا، لكنها تغرس نفسها في وجدان المتلقي لسنوات. وهكذا فإن سوق القيمة الفنية قد تضللنا أحيانًا: نُعجب بما هو مبهرج، مألوف، سهل التلقي. بينما الإبداع قد يتطلب زمنًا لاستيعابه وتأمله.

هنا تتعقد مهمة الذكاء الاصطناعي أكثر: ليس فقط في إنتاج شيء "يبدو مُبدَعًا"، بل أن "يكون مُبدَعًا".

كيف تُفكّر الآلة؟ عندما يتحوّل الإبداع إلى احتمالات

في جوهره، الإبداع البشري هو قفزة في المجهول. البشر يخلِقون أحيانًا أفكارًا لا تُبنى على منطق سابق، بل على حدس، أو تجربة وجدانية، أو حتى على حلم.

أما الذكاء الاصطناعي، خصوصًا النماذج التوليدية المعاصرة مثل GPT أو DALL·E، فيعتمد على إعادة توليف الاحتمالات ضمن نطاق البيانات التي تدرّب عليها. هو لا "يبتكر" من عدم، بل يحاكي ما هو شائع أو مألوف، لأن مهمته الأساسية هي تقليل الخطأ، والاقتراب من ما يُتوقّع.

خذ مثلًا برنامجًا يُطلب منه توليد قطعة موسيقية. سيُنتج مقطعًا يشبه في تركيبه آلاف القطع الموسيقية السابقة التي "تعلّم" منها. أما أن ينتج شيئًا خارجًا عن كل تلك القوالب، فهذا ليس ضمن بنيته التكوينية، إلا إذا طُلب منه الخروج عنها عمدًا.

ومع ذلك، تظهر منطقة رمادية: ماذا لو طلبنا من الآلة أن تولد احتمالات أقل شيوعًا؟ ماذا لو زادت نسبة "العشوائية" في النتائج، أو أُدخلت معايير تشجع على الانحراف عن النمط؟ هنا قد تنتج الآلة شيئًا يبدو "مبدعًا"، لكن الحقيقة أن هذه النتائج لا تنبع من تجريب ذاتي أو حدس، بل من معالجة رياضية لاحتمالات غير مألوفة. وهذا هو الفرق الجوهري.

وكما أشرنا سابقًا، لا تزال قدرات الذكاء الاصطناعي محصورة ضمن ما يُعرف بالإبداع التركيبي أو الاستكشافي، أما الإبداع التحويلي، فهو لا يزال بعيدًا عن متناوله، لأنه يتطلب وعيًا بالسياق، وقدرة على كسر النظام ذاته، وهو ما لا تملكه الآلة. وهذا يقودنا إلى النقطة الذهبية: الذكاء الاصطناعي يتعلم من النصوص والنتائج، لا من السلوك.

نحن نتعلم من السلوك… أما الآلة فتتعلم من النتيجة

أحد الفروق الأساسية بين الإنسان والذكاء الاصطناعي يكمن في نموذج التعلم نفسه. الإنسان كائن بيولوجي-سلوكي، يتعلم من خلال التجربة الحية، من البيئة، من الألم والفرح، من الخطأ والمحاولة. كل قرار يتخذه، أو فكرة يخلقها، تحمل أثرًا من ماضيه، من جسده، من تاريخه الحسي والعاطفي. نحن لا نتعلم من "النتائج" فقط، بل من المسار الذي يقود إليها.

في المقابل، الذكاء الاصطناعي يتعلم من النصوص، الصور، الإشارات الرقمية - من الأشياء التي تم توثيقها وتغذيتها في النظام. إنه "يتغذى" على ما نكتبه، لا على ما نفعله. وهذه فجوة لا يُستهان بها.

فكر في الفرق بين طفل يتعلم الرسم من خلال لمس الألوان وتلطيخ الورق، وموديل ذكاء اصطناعي يتعلم الرسم من ملايين الصور المصنفة رقميًا. الأول يكوّن علاقة جسدية-عاطفية مع الفن، يتردد، يُخطئ، ينفعل، يملّ ثم يتحمس، يرسم شيئًا لأنه حلم به أو لأنه مرّ بتجربة خاصة. الثاني يعالج أنماطًا إحصائية وينتج أفضل ما يمكن وفقًا للبيانات التي تلقاها.

الكاتب والرسام هارولد كوهين، مبتكر برنامج AARON، أدرك هذه الفجوة مبكرًا. AARON يستطيع أن يرسم لوحات جميلة، لكن كوهين نفسه قال إن البرنامج لا "يعرف" ما الذي يرسمه، ولا يملك وعيًا بمحتوى أعماله، بل يعمل ضمن قواعد حددها هو مسبقًا. ومع ذلك، فقد اعتبر كوهين أن AARON هو امتداد لموهبته، لا كيان مبدع مستقل.

إذا أردنا أن نعلّم الآلة "الإبداع"، فإن التحدي لا يكمن في كمية البيانات التي نزوّدها بها، بل في كيفية تمثيل السلوك ذاته، بكل تعقيداته النفسية والبيولوجية. كيف نُبرمج الحيرة؟ التردد؟ اللحظة التي يتوقف فيها الكاتب عن الكتابة ثم يمزّق الورقة؟ كيف نُعلّم الآلة الانفعال أثناء الفعل، لا فقط النتيجة النهائية؟

إننا هنا أمام حدود تقنية وفلسفية في آن واحد. الحدود بين السلوك المباشر والمعنى المُعاد تمثيله. لكن... ماذا لو تمكّنا يومًا ما من تعليم الذكاء الاصطناعي أن يراقب "السلوك" بدلًا من مخرجاته فقط؟ هذا هو ما سنفتحه في الفقرة التالية.

تعليم الآلة أن تراقب السلوك: هل نقترب من إبداع حقيقي؟

لنتخيّل مستقبلًا لا يكتفي فيه الذكاء الاصطناعي بتلقّي النصوص أو تحليل الصور النهائية، بل يصبح قادرًا على رصد العملية الإبداعية ذاتها - لحظة بلحظة. تخيل نموذجًا للذكاء الاصطناعي يتابع كاتبًا وهو يمحو جملة ثم يعيد كتابتها بطريقة مختلفة. يلاحظ التوقف الطويل بين كلمتين، أو التردد قبل اتخاذ قرار بصيغة عنوان. يتعلم من "ما لم يُكتب" بقدر ما يتعلم من "ما كُتب". هنا، لا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي كمولّد محتوى، بل كمراقب لسلوك إبداعي معقّد، بل وربما كشريك فيه.

في هذا السياق، بدأت بعض النماذج المتقدمة تُظهر قدرة مدهشة على التعلّم من مراقبة سلوكها الخاص، عبر ما يُعرف بالتعلم أو التحسين الذاتي (self-refinement)، حيث تعيد تقييم استجاباتها بناءً على مخرجات سابقة أو تقييمات بشرية. كما يمكنها التعلم من تحليل سلوك البشر أو نماذج أخرى، باستخدام تقنيات مثل التعلم بالتقليد (imitation learning) أو المحاكاة (simulation-based learning). هذه الأساليب لا تقتصر على معالجة النصوص فقط، بل تمتد إلى تحليل القرارات وتعديل الاستجابات تدريجيًا لتحقيق أداء أقرب إلى التفكير البشري الواعي.

مثال بسيط: طفل يرسم شمسًا خضراء. بالنسبة لنموذج ذكاء اصطناعي تقليدي، هذه "غلطة" لأنه لم ير في بياناته السابقة شمسًا بهذا اللون. لكن من منظور تربوي أو إبداعي، هذا التصرف قد يكون نواة لأسلوب فني جديد. أو شاعر يكتب جملة "خاطئة" نحويًا، لكنها تهزّ وجدان القارئ. هذه "الانحرافات" عن النمط ليست فقط مقبولة، بل قد تكون هي جوهر الإبداع.

هنا، تبرز مفارقة مثيرة: الذكاء الاصطناعي في صيغته الحالية لا يعرف الفرق بين "انحراف عبقري" و"خطأ عشوائي"، إلا إذا تم تدريبه على أنماط سابقة تحتوي هذه الأمثلة. بينما الإنسان يمتلك القدرة على إدراك أن الجملة الغريبة، أو الرسم الغريب، قد يحمل قيمة جمالية أو شعورية لم يسبق له أن صادفها. هذا يطرح سؤالًا مركزيًا: هل يمكن للآلة أن "تتعلّم" الحساسية الجمالية؟ أن تدرك الفرق بين التجريب العبثي، والتجريب المُبدع؟

معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم تعمل ضمن الابداع التركيبي أو الاستكشافي، أي أنها تدمج أو تستكشف ما هو ممكن ضمن إطار معيّن. لكن الابداع التحوّلي - النوع الذي يُغيّر الإطار ذاته - لا يزال بعيدًا. لأنه يتطلب حسًّا بالحدود كي يتجاوزها وفهمًا عميقًا لا للغة فحسب، بل للعالم.. وهذا ما لا تملكه الآلة بعد. لكن... ماذا لو اقتربت من امتلاكه؟ وهل نحن مستعدون لإعادة تعريف الإبداع حينها؟

في الفقرة التالية، نختم بتساؤل فلسفي: هل يحتاج المبدع أن "يشعر" لكي يكون مبدعًا؟ أم أن ما يهم فعلًا هو ما نشعر به نحن حين نواجه العمل؟

الآلة لا تشعر… لكن هل هذا مهم فعلًا؟

يبقى أحد الفروق الجوهرية بين الإنسان والآلة هو الوعي والتجربة الشعورية. فالآلة لا تملك "إحساسًا" أو "نيّة". لا تفرح حين تكتب سطرًا جميلاً، ولا تحزن إن رُفضت لوحتها. لكن… هل يتطلب الإبداع بالضرورة وعيًا ذاتيًا؟ أم أن الأثر الذي يُحدثه العمل هو الفيصل الحقيقي؟

لو قرأت قصيدةً كتبها نموذج لغوي وشعرت بها، وبكيت، هل تبكي لأن "الكاتب" شعر بما كتبه؟ أم لأن القصيدة أثارت شيئًا بداخلك؟ ولو ألهمك لحنٌ من تأليف خوارزمية موسيقية، فهل قيمة الإلهام تقلّ لأنها لم تصدر عن وجدان بشري؟

هذه التساؤلات ليست جديدة. حتى في الفنون التقليدية، لطالما اختلف الناس حول ما إن كانت نية الفنان مهمة في تفسير العمل، أم أن المعنى يُستخلص فقط من التجربة التي يعيشها المتلقي. رولان بارت، في كتابه الشهير "موت المؤلف"، دعا إلى تحرير النص من سلطة مبدعه، وإعطاء الأولوية لتفاعل القارئ معه. هذا المنظور يصبح أكثر إثارة عندما نطبّقه على الذكاء الاصطناعي: إذا كان العمل قادرًا على التأثير فينا… فهل يهم من كتبه؟

ربما يكمن الاختلاف الحقيقي لا في الإحساس ذاته، بل في قدرة الكائن على تجربة المعنى قبل أن يخلقه. البشر يكتبون من وجدانهم، يتأثرون بما حولهم، يحلمون، يفشلون، ينهضون. الآلة، على النقيض، تكتب من قاعدة بيانات، دون إدراك أو قصد.

في زمن يقودنا فيه "اقتصاد الانتباه" إلى تفضيل ما يُثير اللحظة على ما يُحفّز العمق، قد يُصبح من الصعب التمييز بين العمل المبدع والمنتَج المحاكى. هنا تتداخل السوق مع الشعور، وتُصبح القيمة الفنية عرضة للتمويه. فهل ما نراه ناجحًا لأن له قيمة إبداعية فعلًا؟ أم لأنه ببساطة، انتشر أكثر؟ وهل تضللنا خوارزميات التوصية - التي تُقدّم لنا المحتوى بناءً على الأنماط السابقة - عن رؤية ما هو فعلاً جديد وخلاق؟ لكن النتيجة قد تثير لدينا نفس الانفعال. وهل مجرد التأثير في الآخر هو ما يُعتبر غاية الإبداع؟ وهنا، تصبح الحدود أقل وضوحًا.

خاتمة: هل نحلم بما تحلم به الآلة؟

ربما الجواب لا يكمن في ما إذا كانت الآلة تحلم، بل في ما إذا كنا نحن ما زلنا نسمح لأنفسنا بالحلم. لعلّ هذا كله ليس سؤالًا عن الذكاء الاصطناعي، بل عن الإنسان ذاته: هل فقدَ دهشته أمام العالم؟ هل صار يحتاج إلى آلة لتذكّره بما نسيه؟ فالإبداع لم يكن يومًا حكرًا على الآلات أو البشر، بل كان دومًا ما يحدث حين يجرؤ أحدهم على كسر النمط.

والسؤال القادم لن يكون:

هل تستطيع الآلة أن تخلق؟

بل: ماذا سيحدث حين تبدأ في الحُلم؟

وقد تسأل الآن:

هل هذا النص كُتب بواسطة إنسان أم آلة؟

وهل يهم أصلًا؟ 

الأكثر قراءة

اليوم التالي: أين توطين الشيعة؟