اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يتجه نحو كارثة بيئيّة مائيّة حقيقيّة... فهل تتخذ إجراءات جذريّة وسريعة

مع بداية شهر نيسان بدأ الناس يستشعرون قدوم الصيف، فباشروا بإعداد العدة لاستقباله مع قلق حول ما ينتظرهم في الأيام القادمة من شح في المياه، بسبب قلة المتساقطات التي تكاد تكون شحيحة خلال فصل الشتاء، لكن نيسان له مفاجآته التي تحيي قلب الأرض والإنسان، فعاد ليذكرنا انه هو الآخر له نصيب في العطاء والخير. فمع تساقط حبات المطر، عاد الأمل ليحيي الأرض والإنسان.

ويستذكر اللبنانيون أمثال نيسان الشعبية، ومن هذه الأمثال: "النقطة في نيسان بتساوي كل سيل سال"، "الشتوة في نيسان جواهر ما الها أثمان"، "نيسان بلا شتا مثل العروس بلا حلا" ، "في نيسان ببتل الحراث والفدان"، "مطر نيسان خير وصحة للإنسان"، "مطرة نيسان بتحيي الأرض والإنسان" (لأن الاعشاب والخضرة تكسو السهل والجبل في هذا الشهر من السنة، وتكثر النباتات، فتأكل المواشي من المراعي الخصبة فتزداد سمنة ويكثر لبنها، فيتغذى الانسان بلحمها ولبنها، ومن هنا يحي الإنسان).

لكن في لبنان لا نيسان و لا "أسيل" ولا "آدم" (هما العاصفتان الوحيدتان لهذا الموسم)، قد تعوض شح المياه في لبنان، فموسم شتاء 2024 ـ 2025 كان غير اعتيادي، ينذر بكارثة مائية في فصل الصيف، بسبب عدم تساقط كميات كافية من الثلوج والأمطار، لتغذية الينابيع والمياه الجوفية.

جفاف غير مسبوق

الجدير بالذكر أن معدل المتساقطات المطرية وِفقا لمصلحة الأرصاد الجوية، بلغ انخفاضا بنسبة 50 % عن المعدلات الطبيعية، هذا التراجع يمثل تهديداً حقيقياً لموارد المياه والبيئة في لبنان. وهو ما ينعكس سلبا على مخزون المياه الجوفية، وينذر بكارثة تهدد الأمن الغذائي والمائي في لبنان. ففي "بلد المياه"، نعاني من جفاف غير مسبوق، بحيث أصبح الوضع في مهب الريح ، مع شح تاريخي ينعكس سلباً على مختلف جوانب الحياة اليومية.

يشهد لبنان جفافا حادا هو الأسوأ منذ أكثر من 65 عاماً، فالتغيرات المناخية أدت إلى انخفاض هطول الأمطار بشكل غير مسبوق، والنمو السكاني إضافة إلى تدفق أعداد كبيرة من النازحيين السوريين والتوسع العمراني، زاد من الطلب على المياه بشكل كبير جدا، بينما البنية التحتية المتهالكة لا تزال تهدر كميات هائلة من المياه يوميا بسبب التسربات، فتأخر الأمطار وانحباسها لا يأتي من العدم، حيث تعد سلوكيات الإنسان سببا أساسيا في ذلك، فقد ثبت علميا أن لإرتفاع درجة حرارة الأرض تأثيراً مباشرا في انحباس المطر.

وفي هذا السياق أكد الدكتور علي فاعور، أستاذ الجغرافية والعميد السابق لكلية الآداب وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية ومؤلف أطلس لبنان، ان "العالم يشهد تقلبات مناخية حادة مع احتباس غير منتظم للأمطار، حيث يتركز الهطول في فترات قصيرة، ما يزيد من الأزمات البيئية. فقد ارتفعت حرارة الأرض بمعدل 0.74 درجة خلال القرن العشرين، متجاوزة 1.5 درجة في المنطقة المتوسطية، ما ينعكس على لبنان بخسائر اقتصادية متوقعة تصل إلى 14% من ناتجه المحلي بحلول 2040، و32% بحلول 2080".

ارتفاع معدلات السرطان

 اضاف: "ان الحرارة المرتفعة التي تتجاوز 40 درجة أحياناً، تسببت بحرائق مدمرة في الأعوام الماضية، فيما تتفاقم مشكلة التلوث بفعل انبعاثات المصانع والمولدات ووسائل النقل، ما يؤدي إلى أمراض مزمنة وزيادة الوفيات في المدن الكبرى، كما يهدد الاستخدام العشوائي للمياه والازدحام السكاني، بجعل التلوث أزمة مزدوجة في البر والبحر، ليظل لبنان والشرق الأوسط في مواجهة تغيرات مناخية، قد تعيد تشكيل مستقبل المنطقة" .

واشار إلى ان "لبنان يحتل صدارة الدول الأكثر تلوثا في غربي آسيا، مع ارتفاع معدلات السرطان، نتيجة تلوث الأنهار والمياه الجوفية، خاصة في حوض الليطاني وبحيرة القرعون، كما يعاني من إجهاد مائي خطر، إذ حل في المرتبة الثانية عالمياً بعد قطر عام 2019، نتيجة كثافة سكانية مرتفعة تخطّت 7.5 مليون نسمة، مع تزايد أعداد النازحين، ما أدى إلى نقص المياه وارتفاع ملوحتها وتلوثها". ولفت الى "ان تصريف مياه الصرف الصحي في الأنهار والمياه الجوفية يؤدي إلى مخاطر صحية وأمراض معدية، خاصة بين الأطفال، مما يزعزع الأمن الغذائي والصحي".

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يتصدر لبنان بلدان غرب آسيا في معدلات السرطان، كما أن 79% من اللبنانيين يرون التغير المناخي خطراً داهما، بينما يشعر 90% بالقلق من تلوث المياه والهواء والنفايات في المدن الكبرى، حيث تحولت الأنهار إلى مكبات للنفايات، مما يفاقم الأزمة البيئية والصحية في البلاد".

المزارعون امام تحديات عظيمة

يشار إلى أنه في كانون الأول من العام الماضي أعلنت مؤسسة "مياه بيروت وجبل لبنان"، في بيان لها، عن انخفض منسوب مياه الينابيع بشكل كبير، كما منسوب المياه داخل الآبار، وطالبت اعتماد برنامج تقنين قاس في توزيع المياه في المناطق كافة، لا سيما في كسروان والمتن والعاصمة بيروت.

من جهة أخرى، ومع تضاؤل الموارد المائية، وأمام هذا الواقع المزري، يجد المزارعون أنفسهم أمام مأزق حقيقي وتحديات غير مسبوقة، فالزراعة تستهلك ما بين 65 و70 % من المياه المتاحة ، بحسب أستاذ الموارد المائية وهندسة الري في الجامعة اللبنانية داوود رعد، "مما يجعل الأزمة أكثر تعقيدا، ويضع لبنان على أعتاب كارثة زراعية نتيجة شح المياه"، وهذا ما أكد عليه وزير الزراعة نزار هاني ، محذرا من أن "استمرار تراجع الأمطار، سيؤدي إلى أزمة طويلة الأمد تتطلب إعادة هيكلة لقطاع الزراعة بأكمله".

وكانت وزارة الزراعة أطلقت سلسلة من التوجيهات للمزارعين، تهدف إلى تقنين استهلاك المياه، واعتماد تقنيات حديثة مثل الري بالتنقيط للحفاظ على الموارد المتاحة، كما أوصت بضرورة الامتناع عن استخدام مياه غير صالحة للري، إلى جانب اتخاذ تدابير أخرى مثل تغطية التربة بالبلاستيك لتقليل التبخر وإصلاح شبكات الري لتجنب التسربات.

سلبيات على إنتاج الطاقة الكهربائية

أضرار شح المياه والجفاف لن تتوقف على قطاع الزراعة فقط وإنما ستنعكس أيضاً على إنتاج الطاقة الكهربائية، حيث أشار رئيس مصلحة الليطاني سامي علوية إلى "أن الخسارة على مؤسسة كهرباء لبنان ستكون كبيرة، فمعدل انتاج معامل الليطاني حالياً يصل إلى نحو 250 مليون كيلو واط ساعة، في حين كان المعدل السنوي على مدى ستين عاما 520 مليون كيلوواط ساعة، ما يعني أن "كهرباء لبنان" ستخسر حوالي 270 مليون كيلوواط ساعة، من الطاقّة الكهربائية المنتجة في معامل الليطاني بسعر 3 سنتات". واشار الى "أن كلفة إنتاج الطاقّة في المعامل الحرارية تصل إلى نحو 12 سنتاً، وستكون خسارة مؤسسة كهرباء نحو 27 مليون دولار، هذا فضلاً عن انخفاض واردات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني من نحو 15 مليون دولار سنوياً إلى حوالى 7.5مليون دولار".

إذا، لبنان يتجه نحو كارثة بيئية مائية حقيقية إذا لم تتخذ إجراءات جذرية وسريعة، ويرى الخبراء أن لبنان بحاجة إلى تحسين البنية التحتية، وتشجيع تقنيات الري الحديثة، وتوعية المواطنين بأهمية الحفاظ على كل قطرة ماء، إضافة إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة لإدارة المياه، تشمل تحلية مياه البحر لكي تصبح مصدرا للمياه العذبة، فتحل مكان المياه الجوفية ومياه الآبار، كما يجب إعادة استخدام المياه وإعادة تدويرها كاستخدام مياه الصرف المنزلية لأغراض غير صالحة للشرب مثل الري، وإدارة المياه الجوفية من خلال تنظيم استخراجها لضمان استخدامها على نحو مستدام، إضافة إلى تخزين مياه الأمطار لاستخدامها لاحقا مما قد يساعد في التخفيف من آثار الجفاف، والحد ايضا من هدر المياه أو "ترشيد" المياه ما قد يساهم أيضا في التخفيف من حدة الأزمة، وهذه الإجراءات يتم اعتمادها في العديد من دول العالم.

يواجه لبنان اليوم أخطر أزمة مياه في تاريخه الحديث، حيث أصبح شبح الجفاف يهدد الحياة اليومية لكل مواطن. فهل ستعمل الحكومة اللبنانية على اتخاذ تدابير وقائية لتخفيف وطأة الأزمة وتضع حلولًا استراتيجية طويلة الأمد، فيستطيع لبنان تجاوز هذه الأزمة قبل أن يتحول الجفاف إلى كارثة حقيقية تهدد أمنه الغذائي والمائي، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تهدد بتفاقم الوضع خلال السنوات القادمة أم لا حياة لمن تنادي؟

الأكثر قراءة

لا نزع للسلاح تحت النار