اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

ندى عبد الرزاق – الديار


في مجتمع ترفع فيه المؤسسات التربوية والرعائية شعارات الرحمة والإنسانية، تفرض الوقائع الموثقة نفسها من حين إلى آخر، كاشفةً عن هوة مؤلمة بين الخطاب والممارسة. حادثة تعنيف طفلة داخل دار رعاية، ولو تعود إلى أعوام مضت، تعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول مدى فعالية أنظمة الرقابة والمساءلة، وحول مسؤولية المؤسسات عن ضمان بيئة آمنة لمن هم في أمسّ الحاجة إلى الحماية.

هذا التحقيق يضع بين يدي القارئ صورة دقيقة لمشهد معقد: يروي الشهادات، وينقل مواقف الجهات الرسمية، ويحلل الأثر النفسي والاجتماعي لمثل هذه الانتهاكات، في محاولة لفهم أعمق لمنظومة الرعاية الاجتماعية، والتحديات التي تعترض سبيل إصلاحها.

بين صمت الضحايا وصدى الفيديوهات المسربة، تبرز الحاجة إلى مراجعة جادة وشاملة، تحفظ للطفولة كرامتها، وللمؤسسات دورها الأخلاقي والقانوني.

في لبنان، حيث ترتفع شعارات الإنسانية فوق جدران المؤسسات الرعائية، تعيش بعض الزوايا المعتمة بعيدًا عن الضوء والكاميرات. عالم خفي يكشف بين الحين والآخر، عبر مقاطع مصورة وشهادات دامية، عن مشاهد تتناقض مع الرسائل المعلنة لهذه المؤسسات. وبينما تحاول هذه المؤسسات الحفاظ على صورة براقة للعطاء والرعاية، فإن الوقائع المسربة تطرح أسئلة جوهرية حول حقيقة ما يجري خلف الأبواب المغلقة، ومدى حماية الأطفال الذين وُضعوا تحت وصاية هذه المؤسسات بدافع الحاجة إلى الأمان.

مرة جديدة، تفتح حادثة قديمة جراحًا لم تندمل، بعد انتشار مقطع مصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر تعنيف طفلة داخل إحدى دور الرعاية. الفيديو، الذي أكدت إدارة «دار الأيتام الإسلامية» أنه يعود إلى عام 2017، أعاد إلى الواجهة قضايا سابقة ارتبطت بمؤسسات اجتماعية مرموقة لم تسلم من فضائح مماثلة. وبينما تحاول بعض الجهات المعنية تبرير تكرار هذه الحوادث بأنها «حوادث فردية»، يتسع النقاش المجتمعي حول أسباب استمرار هذه الانتهاكات، ومدى خضوع المؤسسات لأنظمة رقابة فعّالة، تضمن مساءلتها ومحاسبتها عند الضرورة، بعيدًا عن الاعتبارات الشكلية.

توضيحات رسمية من إدارة الدار

أكدت مديرة العلاقات العامة في مؤسسات الرعاية الاجتماعية – دار الأيتام الإسلامية، السيدة رانيا زنتوت، في تصريح لـ«الديار»، أن الفيديو المنتشر «حادثة قديمة تعود إلى عام 2017»، مشيرة إلى أن الإدارة تعاملت مع الواقعة باتخاذ الإجراءات اللازمة بحق الموظفة المعنية، ضمن الأطر القانونية المعمول بها.

وأضافت زنتوت أن إعادة نشر الفيديو تهدف إلى الطعن في سمعة المؤسسة ومناقبيتها، مشددة على أن الدار تلتزم بمعايير شفافة وقيم تربوية وإنسانية، وهو ما مكّنها من مواصلة رسالتها لعقود طويلة رغم التحديات.

موقف وزارة الشؤون الاجتماعية

مصدر مسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية أوضح لـ«الديار» أن الوزارة ستصدر موقفًا رسميًا بعد عودة الوزيرة من سفرها، مؤكداً أن الإجراءات الرقابية قائمة ومستمرة على المؤسسات الرعائية عبر فرق مختصة تتحرك فور توفر أي بلاغ عن حالات تعنيف.

وأكد المصدر أن الرقابة لا تقتصر على المؤسسات المتعاقدة، بل تشمل جميع المؤسسات الرعائية في لبنان.

قراءة نقدية لأداء بعض الهيئات

في السياق نفسه، أعربت المحامية والناشطة الحقوقية ماريانا برو، في حديثها لـ «الديار»، عن قلقها حيال أداء بعض مكاتب حماية الأحداث، معتبرة أن جزءاً من هذه الأجهزة يحتاج إلى مراجعة شاملة.

وأكدت برو أن قدم القضية لا يلغي ضرورة التحقيق الشفاف في كل حالة تعنيف أو انتهاك، داعية إلى تطوير ثقافة مؤسساتية تُعلي من شأن حماية الطفل.

الأثر النفسي للعنف على الأطفال

من جانبها، اعتبرت الدكتورة غنوة يونس، الاختصاصية النفسية والاجتماعية، أن العنف داخل مؤسسات الرعاية يترك آثارًا نفسية مضاعفة، سواء تعلقت بالطفل الضحية أو بأطفال آخرين شهدوا الحادثة أو علموا بها.

ودعت يونس إلى ضرورة إنشاء منظومة حماية متكاملة تتضمن فحوصات نفسية إلزامية للعاملين، وتدريبًا مستمرًا على مبادئ الرعاية التربوية والإنسانية، فضلاً عن تفعيل نظام تبليغ سري وآمن داخل المؤسسات.

شهادة من ضحية: رواية مؤلمة

ضمن جهودها لتوثيق الحقائق، استمعت «الديار» إلى شهادة الطفل أحمد، الذي روى تفاصيل معاناته أثناء وجوده في دار الأيتام الإسلامية.

سرد أحمد أنه تعرض للاعتداء الجسدي والنفسي من قبل أطفال آخرين وموظفين، وأن محاولاته لإبلاغ الإدارة قوبلت بالتجاهل والتعنيف.

وأشار أحمد إلى أنه، مع مجموعة من الضحايا السابقين، يعتزمون تقديم شكاوى رسمية أمام الجهات المختصة للمطالبة بإنصافهم وكشف حقيقة ما جرى.

بين الحقائق والمسؤوليات

تكشف هذه القضية، كما غيرها، أن حماية الأطفال داخل مؤسسات الرعاية في لبنان تحتاج إلى إعادة نظر جذرية في منظومة العمل والرقابة.

وبين صمت الضحايا وصدى الوثائق المسربة، تبرز الحاجة إلى نهج صارم وواضح يحفظ حقوق الأطفال وكرامتهم، ويعيد الثقة بالمؤسسات التي يفترض أن تكون ملاذًا آمناً لا مصدراً للخوف.

وفي زمن تتجدد فيه هذه القضايا باستمرار، تبدو المسؤولية الوطنية والمجتمعية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.


الأكثر قراءة

ما سر الحملة الاميركية على جنبلاط؟ محمود عباس في بيروت ودمشق لبحث السلاح الفلسطيني تحسينات على الأجور الاثنين والعام الدراسي «مبتور» ونفق المطار بلا إنارة