عاقل يفهم
في زمن تتسارع فيه المتغيرات وتطغى فيه المظاهر على الجوهر، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: من المسؤول عن ضياع القيم؟ هل هو الفرد الذي تخلى عن ضميره؟ أم الأسرة التي تهاونت في التربية؟ أم المجتمع الذي غلبت عليه الأنانية والمادية؟ أم أن المسؤولية جماعية ومتداخلة؟
هذه الأسئلة ليست مجرد ترف فكري أو محاولة للتنظير، بل هي صرخة نابعة من واقع ملموس: طفل لا يحترم معلمه، شاب يحتقر الكبير، موظف يسرق وقته، مسؤول يفرط في أمانته، ومجتمع يصفق للباطل إذا زُيّن له وإعلام يروج للتافهين ويدافع عن الفاسدين... إذا السؤال الأهم هو: هل القيم التي تربينا عليها أصبحت في مهب الريح؟!!
هذه القيم ليست شعارات نرفعها في المناسبات، بل هي أساس تبنى عليه المجتمعات، وتقاس بها حضارتها. حين تضيع القيم، ينهار البناء الأخلاقي، وتفقد العلاقات الإنسانية معناها وتزول معالم الإنسانية. ولكن كيف وصلنا إلى هذا الانحدار؟
لا شك أن الأسرة هي النواة الأولى التي يتلقى فيها الإنسان مبادئه الأولى. فإذا غابت الرقابة، وضعف الحوار، وتراجع دور الأب والأم كمثال يحتذى به، نشأ جيل تائه لا يعرف مرجعية، ولا يحترم حدودا. الأسرة الملهية بهموم المعيشة أو الرفاهية، والتي تترك أبناءها للشاشات والتطبيقات، تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. كم من الأهل اليوم يراجعون ما يشاهده أطفالهم؟ كم من أب جلس مع ابنه وسأله عن معنى الصدق أو الأمانة؟ الأسرة حين تتنازل عن دورها، تفتح المجال لأي مؤثر خارجي أن يحتل الفراغ التربوي.
للتربية أيضا ادوار كبيرة في ضياع القيم او عدمها، فالمدرسة بدورها تخلت في مكان ما عن دورها التربوي، واكتفت بتلقين المعرفة المجردة. لا يكفي أن نعلم الأجيال الرياضيات والعلوم، إن كنا لا نزرع فيهم الصدق، والعدل، والاحترام. القيم لا تدرس في كتاب، بل تعاش في سلوك المعلمين والمناهج والأنشطة. فالتعليم دون تربية هو كمن يعطي سيفا لطفل. ما فائدة أن نحشو أذهان الطلاب بالمعارف إن لم نزرع فيهم الضمير؟ كيف نطلب من المتعلم أن يكون مواطنا صالحا، ونحن لا نغرس فيه منذ الصغر قيمة احترام القانون وخدمة المجتمع والرأفة بالضعفاء؟
في كثير من المدارس، نرى طالبا ينجح لأنه حفظ، لا لأنه فهم أو التزم. نرى معلما يدرس تحت ضغط الروتين، لا لأنه حامل رسالة. التربية لا تأتي فقط من الدروس، بل من البيئة: حين يرى الطالب مدير المدرسة ينظف الساحة احتراما للنظافة، سيتعلم أكثر من ألف درس نظري.
نحن في زمن يصنع فيه النجم من فيديو تافه، ويكافأ فيه من يضحك الناس بلا مضمون. الإعلام الذي من المفترض أن يرتقي بالذوق العام، أصبح في كثير من الأحيان أداة لخلق نماذج مشوهة، تصدر صورة النجاح على أنه ثروة مفاجئة أو شهرة فارغة.
إذا على الإعلام مسؤوليات جمة، إن كان الإعلام التقليدي منه أو الرقمي. كلاهما لعبا دورا مزدوجا، ففي حين يفترض بهما أن يكونا وسيلة توعية وبناء، تحولا في كثير من الأحيان إلى وسيلة هدم وتشويه. القيم تمتهن حين يروج للسطحية والعنف والانحلال، وتغيب القدوات الحقيقية لمصلحة نجوم الترفيه السخفاء باسم اللحظة والضجيج.
للمجتمع وسياسة الدولة تأثير مهم في عقول الأفراد، إذ لا يمكن تجاهل دور السياسات العامة والأنظمة التربوية والثقافية في بناء القيم أو تآكلها. حين يكافأ الفاسد ويعاقب الشريف، حين تسحق الكفاءة ويعلو شأن الواسطة والمحسوبية الحزبية أو المذهبية، تتشوه منظومة القيم من الجذور، فيتراجع الحق في مقابل الباطل لتبدأ أولى مراحل انحلال المجتمع وضياع القيم!
...إذن، من المسؤول؟
الجواب المؤلم هو: كلنا مسؤولون. كل بحسب موقعه ودوره. ولا سبيل لإعادة الاعتبار للقيم إلا بإعادة النظر في أنفسنا، في علاقاتنا، في مسؤولياتنا، وفي ما نقدمه للجيل القادم من قدوة وصورة عن العالم.
في النهاية، لا أحد يمكنه أن يبرئ نفسه من المسؤولية. نحن نعيش في مجتمع مترابط، تؤثر فيه كل حلقة بالأخرى. لا يكفي أن نلوم، علينا أن نبدأ بأنفسنا. نربي أبناءنا على القيم لا على الطاعة العمياء، نطالب بمنظومة تعليمية تخرج بشرا لا فقط درجات، نستهلك إعلاما راقيا، لا نصفق للرداءة بل نعيش القيم في حياتنا اليومية ولا نحاضر بها فقط.
ضياع القيم ليس قدرا، بل نتيجة. وإذا أردنا مستقبلا أفضل، علينا أن نعيد بناء منظومتنا الأخلاقية على أسس صلبة، تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند السياسات العامة، بل تنجاوزها لتشمل مفهوم الإنسانية بكل ابعادها. فالقيم هي من تحمي المجتمعات، وتمنح الإنسان إنسانيته الحقيقية.
يتم قراءة الآن
-
لماذا آثر نصرالله أن يستشهد ؟
-
تصعيد «اسرائيلي» يسقط ضمانات واشنطن... وخيبة امل في بعبدا لا تعديل للقانون... هل تحصل الانتخابات في بيروت؟ «هواجس» من مفاجآت ترامب... وقلق في «اسرائيل»
-
أردوغان يُقدّم الشرع هديّة لنتنياهو
-
عودة الرعاية الخليجية للبنان وموسم سياحي واعد صناديق الشمال على موعد مع التغيير أو تثبيت التوازنات؟! وساطة عربية بين دمشق و«تل ابيب»: ماذا يُحضَّر؟
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
15:18
"معاريف" عن مصدر: تلقينا رسالة أميركية بأن واشنطن تفضل وقفا لإطلاق النار بغزة بدلا من عملية إسرائيلية شاملة
-
15:09
وزارة التربية تُصدِر شُرعة حقوق وواجبات طلاب الإمتحانات الرسمية اللبنانية وهذا ما جاء فيها
-
15:09
وزيرة التربية: سنطلب من مجلس النواب اعتمادات إضافية من الخزينة لتحسين مداخيل المعلمين
-
15:00
تصادم بين مركبتين على طريق عاريا صعوداً والأضرار مادية
-
14:54
تحليق مسيرة إسرائيلية في أجواء صور والقرى المحيطة
-
14:54
ترامب: على الصين أن تفتح أسواقها لأميركا
