اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في المشهد اللبناني المعقّد، تبدو الأحزاب المسيحية وكأنها عالقة في حلقة مفرغة من الخطابات الشعبوية والمقاربات الانفعالية، في ظل غياب واضح لأي مشروع سياسي شامل ورؤية وطنية متكاملة للبنان. فبين التمسك بشعارات «الدولة» و «الكيان»، والخوف المزمن من الآخر، يغيب الطرح العقلاني الذي يواكب التحولات الإقليمية والداخلية، ويعيد تموضع هذه الأحزاب كركن فاعل في معادلة بناء الدولة.

ففي الوقت الذي ترفع فيه هذه الأحزاب لواء الدولة، وتعتبر الدفاع عن سيادتها خطابًا سياسيًا مكتملًا، تغيب عنها حقيقة أساسية: أن الدولة ومؤسساتها هي بديهيات العمل السياسي وليست مشروعًا بحد ذاته. فلا يكفي التلويح بها كشعار فضفاض من دون تقديم تصور واضح لشكل هذه الدولة، أو سبل النهوض بها وسط ما يعتريها من انهيار.

الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب غالبًا ما يتغذّى على تأجيج المخاوف من الآخر، ما يكرّس منطق الانغلاق الطائفي بدلًا من الانفتاح الوطني. ورغم مشروعية بعض الهواجس التاريخية، فإن الخطاب القائم على الشيطنة والإقصاء لم يكن يومًا سبيلًا لأي تسوية ميثاقية أو تعديل دستوري في لبنان. فالتغيير في هذا البلد لا يمرّ إلا بالتشارك، ولا يُبنى إلا على الاعتراف المتبادل، لا عبر تكريس الكراهية وخلق عدو دائم.

وفي استعراض للواقع الحالي، يتبيّن أن الحزبين المسيحيين الأكبر، «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، يفتقران إلى محتوى سياسي فعلي بمجرد نزع المكوّن الأساسي من خطابهما. فـ «القوات اللبنانية» تبني سرديتها السياسية على شيطنة حزب الله، متناسيةً أن ربط كل علل البلاد بهذا الطرف وحده يفرّغ النقاش السياسي من عمقه، ويحوله إلى أداة للتمويل والدعم الخارجي، حيث يجني مهاجمو حزب الله دعمًا ماليًا وسياسيًا من خصومه الإقليميين والدوليين، ما يحوّل المعركة إلى أداة تمويل لا مشروع دولة.

أما «التيار الوطني الحر»، وبعد أن استنفد شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد لاستلام السلطة، وجد نفسه شريكًا أساسيًا في المنظومة التي حاربها نظريًا. وبعد فقدانه السلطة، يبدو أنه وجد ضالته في خطاب التخويف من النازحين السوريين، محوّلاً معاناة حقيقية إلى مادة تعبئة داخلية، إذ ذهب رئيسه إلى حدّ وصفهم بـ «جيش المحتلين»، في محاولة لإعادة شدّ العصب داخل التيار. وهذه المقاربة، بدل أن تؤسّس لمعالجة جدية لملف النازحين، تُفرغه من مضمونه الوطني والإنساني، وتعيد توظيفه في لعبة المصالح الداخلية الضيقة.

وسط هذا المشهد، تبرز حاجة الأحزاب المسيحية، لا سيّما الأوسع تمثيلًا، إلى خطاب أكثر توازنًا وانفتاحًا، يبتعد عن الشعبوية ويقدّم نموذجًا بنّاءً عن الشراكة الوطنية. وقد تكون مقاربة رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل خطوة أوليّة في هذا الاتجاه، إذ يحافظ على وضوح مواقفه السياسية وحدتها من جهة، لكنه في الوقت نفسه يمدّ اليد إلى الشركاء في الوطن من دون استعلاء أو خطاب إقصائي.

إن تجديد الخطاب المسيحي في لبنان لا يكون بالتخلّي عن الثوابت، بل بالخروج الجريء من الحلقة الطائفية المغلقة إلى رحاب الدولة المدنية الحقيقية، حيث تُبنى الشراكة على الثقة لا على الخوف، وحيث يكون الجميع فاعلين في القرار والمصير، لا أدوات في معارك التخوين والكراهية. وحده المنطق الوطني الجامع، الساعي إلى صياغة مستقبل مشترك، قادر على إعادة المعنى والدور الفعلي إلى الساحة المسيحية، وإخراجها من العجز السياسي إلى الفعل الوطني الحقيقي.


الأكثر قراءة

ساعة اهتزت عظام نتنياهو