اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


حتى وقتٍ قريب، كان الحديث عن الذكاء الاصطناعي لا يتجاوز حدود التوقعات والآمال المستقبلية، أما اليوم فقد أصبح واقعًا ملموسًا يفرض حضوره بقوة في مختلف المجالات، وعلى رأسها قطاع الصحة والطبابة. ففي مواجهة التحديات المعقّدة التي يعاني منها النظام الصحي العالمي، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل تحوّل إلى قوة محورية قادرة على إحداث تحوّل جذري في طريقة تقديم الرعاية الصحية.

أبعاد التحول الرقمي في الطب

شرح الدكتور أنطوان صعب، مدير الجودة وسلامة المرضى في مستشفى الجعيتاوي الجامعي لـ "الديار"، الدور البالغ الأهمية للذكاء الاصطناعي في رحلة الاستشفاء والطب بشكل عام. وأوضح "أن الذكاء الاصطناعي دخل اليوم إلى المجال الصحي من الباب العريض، وإن كان هذا الدخول متأخرا نسبيا مقارنة بقطاعات أخرى كالصناعة أو المالية. وقد برهنت الدراسات خلال السنوات العشر الماضية، على قدرته في تحسين جودة الرعاية الصحية في عدة جوانب".

وأشار إلى "أن الخوارزميات الحديثة أتاحت لوزارات الصحة في عدد من الدول، إجراء مسوح دقيقة للحالات الصحية للمواطنين، ما يُعدّ تطورا كبيرا في مجال الصحة العامة. ومن أبرز الفوائد المرجوّة من الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي: تقليص تكلفة الإجراءات الصحية، تسريعها، إتاحتها لشريحة أوسع من المرضى، وتحسين جودة العمل والنتائج الطبية. كما يساعد الذكاء الاصطناعي في التشخيص والكشف المبكر عن الأمراض، ويتيح تطوير علاجات دقيقة تراعي الخصوصيات الجينية لكل مريض، ما يُحسن من استجابته للأدوية".

واكد ان الذكاء الاصطناعي "يُستخدم حاليا في المجالين الطبي والتمريضي، لمساعدة الطبيب في التشخيص وتسهيل اعتماد البروتوكولات الطبية المناسبة لكل حالة. كما يُستخدم في قراءة الصور الشعاعية مثل صور الأشعة السينية (X-ray) أو الأشعة المقطعية (CT Scan) بدقة قد تتفوق أحيانًا على دقة الطبيب المختص. وهناك أيضا تطبيقات حديثة تقيّم احتمالات التدهور الصحي لدى المريض مسبقا، مما يساعد في توفير الرعاية الاستباقية. ومن الابتكارات المهمة كذلك ما يُعرف بـ "الذكاء الاصطناعي المستمع"، الذي يخفف العبء الإداري عن الطبيب من خلال تدوين وتوثيق المحادثات مع المريض بشكل منظم ضمن ملفه الطبي".

ورأى صعب أن الذكاء الاصطناعي "أداة قوية تُعزز من قدرة الطبيب في اتخاذ القرار، لا سيما بفضل إمكانياته التحليلية لمعالجة بيانات متعددة ومعقدة تخص كل مريض. لكنه يؤكد في المقابل أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون بديلاً للطبيب، لأن القرار الطبي يعتمد أيضا على البعد الإنساني وفهم السياق الاجتماعي والنفسي للمريض، وهو ما يعجز الذكاء الاصطناعي عن إدراكه بالكامل".

وفيما يتعلق بالتحديات، أوضح " أن هناك عدة عوائق تواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصحة، من أبرزها: التحدي التقني المتعلق بدقة التشخيصات التي تقدمها الخوارزميات، والتحدي المرتبط بتقبّل الفرق الطبية لهذه التكنولوجيا وخوف البعض منها، بالإضافة إلى التحديات الأخلاقية المرتبطة باستخدام بيانات المرضى وإمكانية إساءة استخدامها". وأشار إلى "ضرورة وجود آليات صارمة لاختبار مخرجات الذكاء الاصطناعي، من خلال إشراف خبراء طبيين قادرين على التحقق من دقتها"، مؤكدًا "أهمية إشراك الأطباء في تصميم هذه الأدوات منذ بدايتها لتكون فعالة ومناسبة لاحتياجاتهم".

كما نبّه إلى "أن بعض الإرشادات أو التوصيات التي تصدر عن الذكاء الاصطناعي، قد تختلف عند تطبيقها من بلد إلى آخر، بسبب اختلاف البيئات الطبية، مما قد يقلل من دقتها. لذلك، يجب على كل مستشفى أو مؤسسة صحية، أن تتبنى نظام ذكاء اصطناعي خاصا بها مبنيا على بياناتها الخاصة، لضمان دقة النتائج وفعاليتها، مع ضرورة التأكد من أن الخوارزميات لا تُنتج تمييزا أو انحيازا ضد أي فئة من المجتمع".

واشار إلى "أن الهدف المستقبلي الأهم لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصحة، هو دعم الطب الوقائي والكشف المبكر عن الأمراض، ما سيخفف من العبء على أنظمة الرعاية الصحية، ويمنح المرضى فرصة للشفاء المبكر". وأوضح أن "هذا التحول سيكون مدعوما بتقنيتين: الأولى الأجهزة الذكية القابلة للارتداء مثل الساعات الذكية التي ترصد المؤشرات الفسيولوجية بشكل لحظي. والثانية تقنيات النانو التي ستُجسّد في أجهزة دقيقة جدًا يمكن زرعها داخل الجسم لرصد التغيرات التي قد تدل على أمراض خطيرة مثل السرطان".

وفي سياق متصل، شدد صعب على "أهمية تقنية الرصد الجيني، حيث يمكن عند ولادة الطفل تسجيل بصمته الجينية لتحديد الأمراض المحتملة مستقبلاً، وبالتالي اتخاذ التدابير الوقائية مبكرا، واعتماد العلاجات الأنسب بناءً على تركيبة الجسم الجينية".

‎لذلك، يجب على كل مستشفى أو مؤسسة صحية تريد أن تتبنى نظام ذكاء اصطناعي ان تجري اختبارات عليه بناء على بياناتها الخاصة، لضمان دقة النتائج وفعاليتها، مع ضرورة التأكد من أن الخوارزميات لا تُنتج تمييزا أو انحيازا ضد أي فئة من المجتمع".

البيانات الطبيّة بين الأمان القانوني والتقني

أما على الصعيد التقني، فيشير خبير الابتكار والتحول الرقمي السيد جاك جندو، إلى أن "استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي، يثير تحديات أخلاقية معقّدة، تتمحور حول ثلاثة محاور رئيسية:

- أولاً: هناك التحيّز الخفي، إذ قد تعكس خوارزميات الذكاء الاصطناعي انحيازات غير مقصودة، متجذّرة في البيانات الطبية المُستخدمة لتدريبها، مما يؤدي إلى قرارات غير عادلة في التشخيص أو العلاج.

- ثانياً: تبرز قضية مسؤولية الخطأ الطبي، كإحدى الإشكاليات القانونية التي لم يُحسم أمرها بعد، إذ لا يزال من غير الواضح من يتحمل المسؤولية القانونية عند وقوع خطأ في التشخيص الطبيب أم الشركة المطوّرة، أم مزوّد التقنية؟

- ثالثاً: تنطوي المخاوف على فقدان البُعد الإنساني، حيث يمكن أن يؤدي الإفراط في الاعتماد على الأنظمة الذكية، إلى تراجع التواصل الإنساني الضروري بين المريض والطبيب، مما قد ينعكس سلبا على فعالية الرعاية الصحية.

وفي هذا الإطار، يرى جندو "أن حماية بيانات المرضى يجب ألا تبقى مجرد إجراء تقني، بل ينبغي أن تتحول إلى إطار قانوني ذكي، يُراعي الطبيعة الحساسة للمعلومات الطبية".

ولضمان الخصوصية، يقترح اعتماد مجموعة من الحلول من أبرزها: "تشفير البيانات أثناء التخزين والنقل، واستخدام نماذج التعلّم الفيدرالي (Federated Learning)، التي تتيح تدريب الخوارزميات دون تجميع البيانات في مكان مركزي".

علاوة على ذلك، يشدد على "ضرورة إلزامية التدقيق المستقل لكل نظام ذكاء اصطناعي قبل دخوله حيّز الاستخدام، مع الالتزام بمبدأ "الخصوصية منذ التصميم" (Privacy by Design).

في السياق عينه، يُحذّر جندو من "المخاطر الكامنة وراء الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج"، مؤكدًا "أن ذلك قد يؤدي إلى تراجع الحدس والخبرة البشرية، إذ لا تزال الخوارزميات تفتقر إلى الفهم العميق للسياقات المعقدة التي يواجهها الأطباء على أرض الواقع. كما أن هذه الأنظمة قد تعجز عن التعامل مع البيانات الشاذة أو الحالات النادرة، التي لا تتطابق مع الأنماط المدخلة".

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، يضيف جندو، إذ "قد يتسبب الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي في تدهور المهارات التحليلية لدى الأطباء بمرور الوقت، في حال تم الاستغناء عن التدخل البشري كليا".

وفيما يتعلّق بالمستقبل، يتوقّع أن يتحول الذكاء الاصطناعي خلال السنوات المقبلة "من أداة مساعدة إلى شريك ذكي ومتكامل في تقديم الرعاية الصحية". ويشير إلى "أننا سنشهد أنظمة ذكية قادرة على فهم السياق الاجتماعي والنفسي للمريض، وليس فقط تحليل الأعراض السطحية. وبالإضافة إلى ذلك، ستتطور علاجات شخصية مبنية على التحليل الجيني ونمط حياة كل فرد، كما سيبرز استخدام تقنيات التوأم الرقمي (Digital Twins)، التي تسمح بإنشاء نموذج رقمي لكل مريض لاختبار فعالية خطط العلاج قبل تطبيقها فعليا".

ولمزيد من التكامل، لا يرى جندو هذا التطور بمعزل عن باقي التقنيات الحديثة، بل يتوقّع "ثورة رقمية شاملة قائمة على دمج الذكاء الاصطناعي مع تقنيات أخرى". وعلى الرغم من هذا التقدّم، يؤكد "أن الأنظمة الذكية، ورغم قدرتها المتزايدة على تنفيذ عمليات دقيقة، لن تتمكن خلال العقد القادم من إجراء عمليات جراحية متكاملة، دون إشراف بشري مباشر".

فالمهام المعقّدة أو الطارئة، كما يقول، تتطلب مرونة واستجابة لحظية لا تزال خارج نطاق قدرات الخوارزميات. لذلك، يرى أن الذكاء الاصطناعي سيواصل أداء دور "الذراع المساعدة الدقيقة"، فيما تبقى القيادة في يد الجراح المحترف.

 ويختم جندو حديثه بالتأكيد على أن: "الذكاء الاصطناعي في الصحة ليس بديلاً عن الإنسان، بل امتداد لذكائه، يهدف إلى تعزيز الرعاية وتحقيق العدالة الصحية الشاملة".

الأكثر قراءة

الانتخابات البلديّة في البقاع: بعلبك "بروفا" الانتخابات النيابيّة...