اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


دخل لبنان منذ العام 2019 في حالة من الانكماش الحاد، نتيجة للأزمة الاقتصادية التي صنفها البنك الدولي على أنها من أسوأ الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، ما أثر بشكل مباشر على مختلف القطاعات، لا سيما القطاع الصناعي الذي يعتبر من القطاعات الحيوية التي تمثل إحدى الركائز الاقتصادية، والتي يمكن أن تعزز استقرارالاقتصاد الوطني، رغم التحديات التي يواجهها. فعلى مر العقود، مرت الصناعة اللبنانية بتطورات وتغيرات، نتيجة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

الصناعات في لبنان متنوعة، حيث تشمل العديد من المجالات الأساسية. فهناك الصناعات الغذائية التي تمثل أكبر نسبة من الصناعات اللبنانية، وتشمل: الزيوت النباتية، المياه المعدنية، المعلبات، الأجبان، وغيرها من المنتجات الغذائية، إضافة إلى الصناعات الدوائية. فلبنان يعد من الدول الرائدة في إنتاج الأدوية في منطقة الشرق الأوسط، كما تعتبر صناعة الزجاج والسيراميك من الصناعات التقليدية التي كان يتميز بها لبنان، يضاف إليها الصناعات الكيميائية والبلاستيكية مثل الصابون، المنظفات، المواد الكيميائية، البلاستيك وغيرها، دون أن نغفل المفروشات والملابس التي يتم تصديرها إلى الأسواق العربية والعالمية.

يذكر أن صناعة الحرير تعتبر من أقدم الصناعات في لبنان، حيث تم عام 1841 افتتاح أول معمل غزل لبكر الشرانق في بتاتر – الشوف، وبحلول عام 1912  كان هناك حوالي 183 مصنعا للغزل في البلاد ، أدى نقل الحرير من لبنان إلى مرسيليا وليون إلى توسيع ميناء بيروت لاستيعاب زيادة الصادرات، حيث شكلت الصناعة ما يقارب الـ60٪ من الناتج المحلي الإجمالي لجبل لبنان. في بداية القرن العشرين، تراجعت صناعة الحرير، حيث لم تعد المصانع قادرة على المنافسة امام التكلفة الرخيصة، وكميات الحرير الضخمة القادمة من الصين. وآخر معامل تلك الصناعة ما زال شاهدا على حقبة ذهبية من تاريخ البلاد، حين كان الحرير أساسا للاقتصاد والنسيج الاجتماعي اللبناني، ويقع معمل "الحرير الناجي" من بين عشرات المعامل في بلدة بسوس بقضاء عاليه (وسط)، وقد تحول عام 2001 إلى متحف، ويروي قصة الحرير في لبنان بكامل تفاصيلها، ابتداء من تربية دود القز ، مرورا بالإنتاج ووصولا إلى التصدير للخارج.

تحديات وصعوبات

يواجه القطاع الصناعي، شأنه شأن بقية القطاعات في لبنان، تحديات وصعوبات جمة، تحول دون الاستفادة من الطاقات البشرية والاستثمارية العالية، التي تخول الشروع بنهضة اقتصادية تنتشل البلد من كبوته. فالسياسات الحكومية المتعاقبة أهملت القطاع على مر السنوات، لمصلحة الاستيراد العشوائي المدعوم من قبل النافذين. وشهدنا على سياسة تدمير ممنهج للقطاع أدت الى تراجع عدد المصانع اللبنانية من 22 ألفا حتى العام 1998 الى حوالى 6300 مصنع مرخص حالياً، يضاف اليها حوالى 2000 مصنع غير مرخصة تعمل بطريقة غير شرعية ومن دون مراقبة.كما أدى إهمال متطلبات القطاع الصناعي الى إقفال صناعات رئيسية كانت رائدة في لبنان والشرق والاوسط، مثل صناعة الأحذية والالبسة والنسيج والزجاج، إذ تظهر الإحصاءات تراجعاً في عدد مصانع الأحذية من 1200 عام 1995 الى 20 أو أقل، ومن 3004 مصنع للألبسة و604 مصانع للمنسوجات عام 1994 الى 273 مصنعاً.

وفي هذا السياق، أكد وزير الصناعة عيسى الخوري أنه "وبحسب مسح صناعي جديد، يبلغ عدد المصانع المسجلة في الوزارة 7000 مصنع تقريباً، فيما توجد إحصاءات ودراسات غير رسمية تشير الى وجود 15 ألف مصنع"، مضيفاً "لذا من المهم أن نعرف أماكن وجود هذه المؤسسات ومساعدة أصحابها على تنظيم أوضاعهم وتسويتها بشكل قانوني، لا سيما أن معظمها معامل صغيرة وموجودة في مناطق سكنية، وسنقوم بالتنسيق مع البلديات المعنية بتأسيس مجموعات صناعية صغيرة، ما يساهم في احتضان هذه المؤسسات وتخفيض كلفة إنتاج الكهرباء والصيانة والأمن وتدارك المخاطر البيئية".

يذكر أن عدد المصانع المدرجة أسماؤها في مختلف المرجعيات في لبنان من وزارات وغرف تجارة وبلديات وغيرها بحسب إحصاءات "دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية" حتى آخر العام 2024، بلغ 18542 مصنعا ينتج 1656 سلعة، بينها 8771 مصنعا تم مسحها ميدانيا من قبل إدارة دليل الصادرات بموجب استمارات خاصة، وهي مدرجة بالدليل وتم تصنيفها قطاعيا وسلعيا وفقا للنظام الدولي المنسق Harmonized Systems Code H.S.Code) . وتنتج هذه المصانع 1656 سلعة، يصدر منها لبنان 1179 سلعة إلى الخارج، وهي مطابقة للمواصفات وتستوفي الشروط القانونية، مما يؤهلها لدخول الأسواق العالمية.

القطاع الصناعي يساهم

بحوالي 15% من الناتج القومي

يواصل القطاع الصناعي اللبناني مسيرة التحدي، مثبتا تصميمه على تجاوز الصعوبات وقدرته على الابتكار، ومؤكدا مكانته في الاقتصاد اللبناني الذي أثبتت الظروف والأزمات حاجته الملحة إلى التوجه نحو الإنتاج، بعد أن اعتمد لعقود على الخدمات. فالصناعة اللبنانية شهدت منذ منتصف تسعينات القرن الماضي تدهوراً ملحوظاً، نتيجة غياب السياسات الداعمة الهادفة لتحويل الاقتصاد من استهلاكي إلى إنتاجي، والتركيز على القطاعات الخدماتية الأخرى لإنعاش الدخل القومي. وكان لعدم الاستقرار السياسي دوره في مراحل عدة في تفضيل الكثير من رؤوس الأموال، الابتعاد عن أي مشاريع استثمارية في ظل غياب الضمانات.

وفي هذا السياق، أكد مدير شركة "الدليل الصناعي" فارس سعد، الذي يصدر عنها دليل "الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية"، أن "الدراسات والاحصاءات التي قامت بها إدارة الدليل، أثبتت أن الصناعة اللبنانية بواقعها الحالي قادرة على ردم الهوة في ميزان لبنان التجاري، وإنقاذ الاقتصاد اللبناني، وتخليص لبنان من العجز التجاري. كما يساهم في تحويل الاقتصاد اللبناني بنسبة كبيرة إلى اقتصاد إنتاج، إلى جانب القطاعات الأخرى كالسياحة والخدمات".

يشار إلى أن القطاع الصناعي يساهم بحوالي 15% من الناتج القومي، ويعمل في هذا المجال حوالي 200 ألف عامل، ما يعادل 25% من اليد العاملة المحلية، فيما عائداته من التصدير تشكل نحو 3 مليارات دولار. وفي هذا الإطار اشار وزير الصناعة إلى أن "الصناعي هو أكبر رب عمل في لبنان، ويضم 210 آلاف عامل وموظف تقريبا، ويصدر نحو مليارين وخمسمئة مليون دولار سنوياً، وينتج أكثر من 1500 منتج، ويساهم بعشرة مليارات دولار من الناتج المحلي"، معتبرا ان "القطاع الصناعي قطاعاً سيادياً بامتياز، إذ يؤمن الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي".

ووفقاً لبيانات البنك الدولي، يعاني الاقتصاد اللبناني من تراجع حاد في الناتج المحلي الإجمالي، الذي انكمش بنسبة تتجاوز 50% منذ عام 2019، في حين فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي.

 

التمويل من قبل الدولة معدوم

من جهته ، أكد رئيس جمعية الصناعيين سليم الزعني "أن ثبات القطاع أدى الى إبقاء 250 الف عائلة لبنانية في لبنان ، الذي لم يخسر سوى 2% من اليد العاملة في القطاع الصناعي خلال الازمة"، وشدد على "ضرورة إيلاء القطاع الصناعي أولوية قصوى، بهدف تطويره وتنميته كون ذلك يساهم بشكل مباشر في تنمية الاقتصاد الوطني بمختلف قطاعاته، وخلق فرص عمل للبنانيين.

ورغم أن الصناعة في لبنان لا تزال تشكل نسبة جيدة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن القطاع يواجه العديد من المشاكل التي تعيق تقدمه وتوسعه، "فانقطاع الكهرباء وارتفاع كلفة الطاقة، إضافة إلى ضعف البنية التحتية كلها مشاكل تواجهنا بشكل دائما كصناعيون"، يؤكد شاكر صاحب معمل للالبسة، ويضيف "أموالنا ذهبت في المصارف، والتمويل من قبل الدولة ضئيل إن لم نقل معدوم، وهذا يؤدي إلى ضعف في الانتاج، كما ان المنتجات المستوردة (خاصة من تركيا والصين) تأتي لتنافس البضائع المحلية بسبب أسعارها المنخفضة، فلا وجود للرقابة ولا سياسة صناعية طويلة المدى لتنقذ هذا القطاع"، مشيرا إلى "وجود عدد من المصانع التي أغلقت قبل سنوات، بسبب عدم القدرة على المنافسة مع المنتج الأجنبي الرخيص مقارنة بالمحلّي، إضافة إلى الحرب الأخيرة من قبل العدو الإسرائيلي على لبنان".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن 30% من المصانع الموجودة في المناطق الساخنة كانت متوقفة عن العمل، بحسب نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش.

وأضاف شاكر "نحن لا نريد أي شيء من الدولة إلا أن تركز أكثر على القطاع الصناعي، فالاتكال على العقارات والسياحة أوصلنا إلى الانهيار".

 حال شاكر لا يختلف عن بقية أصحاب المعامل في لبنان، لكنهم يأملون أن يقتنع المسؤولون بأن القطاع الصناعي اللبناني قادر على المنافسة، وضخ الدورة الاقتصادية بالحياة لو دعم وأزيلت كل العوائق التي تعترضه، من خلال دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الشراء المحلي، وتحسين البيئة التشريعية للاستثمار الصناعي، وتطوير المدن الصناعية، إضافة إلى دعم الصناعات التصديرية وتعزيز الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.

يشار إلى أن الوزير الخوري أعلن عن تشكيل هيئة تعزيز الصادرات، وهي تتألف من مستشارين يقومون بدراسة عن حاجات الأسواق الأساسية التي يصدر اليها لبنان ، لزيادة نسبة هذه الصادرات ولمعرفة إذا يمكن تصدير صناعات لبنانية أخرى، مؤكدا أن هذه الخطوة تساعد القطاع الصناعي على رفع التصدير.

المطلوب تعاون الجميع

أهمية هذا القطاع وجودة منتجاته تؤكدها المعارض، التي تشكل اليوم بارقة أمل للقطاع الصناعي الذي يسعى جاهداً للتمسك بما تبقى من السوق المحلية، والانفتاح مجدداً على أسواق خارجية، وهي مساحات تواصل اقتصادي مباشر بين الصناعيين والمستهلكين، وبين المنتجات اللبنانية ومنافسيها من الأسواق المجاورة، حيث يقام معرض " صنع في لبنان" في الخامس عشر من الشهر الجاري على أرض Forum de Beyrouth على مدار خمسة أيام، كمنصة وطنية لدعم المنتجات اللبنانية وتعزيز الثقة بالصناعة المحلية، بانضمام حوالي 350 مشترك من الشركات اللبنانية والعالمية.

إن النهوض بالقطاع الصناعي اللبناني يتطلب تعاوناً وثيقاً بين الحكومة والقطاع الخاص، مع تطوير رؤية استراتيجية بعيدة المدى تركز على: تعزيز القدرة التنافسية، دعم الابتكار، وتطوير البنية التحتية. وإذا تمكنا من التغلب على التحديات الحالية، فإن لبنان سيعود ليكون مركزا صناعيا إقليميا يتجاوز أزماته الاقتصادية، ويرسخ مكانته في السوق العالمي.

الأكثر قراءة

«رسالة» سعودية مرتقبة... فما الجديد بعد زيارة ترامب؟ طرابلس تعزز المخاوف في بيروت... وزحلة «ام المعارك» الضغوط مستمرة ولا جديد اميركي... وقلق من «اسرائيل»