اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في كل مواجهة مصيرية، سياسية كانت أم عسكرية، يتوقف النجاح لا على براعة القادة في ساحات القتال أو المفاوضات فحسب، بل على تماسك الجبهة الداخلية وصلابة المجتمع الذي يُفترض أن يشكّل حاضنة للمشروع. فكم من مشروع جبار لم يحقق أهدافه، لا لعجزه الميداني، بل لهشاشة البنية التي يستند إليها.

وإن أردنا الاستلهام من التاريخ، فهو يعجّ بالعِبَر لمن أراد أن يعتبر. من قرطاج الكنعانية، التي امتدت حضارتها من سواحل صور إلى ضفاف قرطاجة (تونس اليوم) وصولاً إلى صقلية وجنوب شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا اليوم)، نستعيد درسًا لا يزال حيًّا بعد أكثر من ألفي عام. ففي الحرب البونيقية الثانية، برز القائد القرطاجي هنيبعل برقا كأحد ألمع العقول العسكرية في التاريخ. اجتاز جبال الألب بجيشه وعتاده، وضرب الجيش الروماني في صميمه، وسحقه في معركة «قاناي» الشهيرة. ومع كل انتصار، كانت روما تترنّح، ولكنها لم تسقط.

السبب لم يكن عسكريًا. فالمعضلة الكبرى كانت في الداخل القرطاجي، حيث انقسم الساسة وتخاذل الأعيان، فيما كان هنيبعل يطلب المدد والقرار السياسي. وبينما كان يهدف لإعادة التوازن إلى المتوسّط وردع طموحات روما التوسعية، كانت النخبة في قرطاج تبحث عن مصالحها الآنية، غير مدركة أن روما لا ترى في العالم شركاء، بل خصومًا يجب إخضاعهم أو إزالتهم. ودون إطالة في السرد التاريخي، هكذا سقطت قرطاج، لا بسيوف روما، بل بخذلانها من الداخل.

اليوم، في لبنان والمنطقة، يتكرّر المشهد بأشكال جديدة ومختلفة نسبياً. المقاومة، التي خاضت لعقود مواجهة مفتوحة مع إسرائيل وحلفائها، وأربكت مشروع الهيمنة الأميركية، تواجه تحديًا مركبًا: الاستمرار في المواجهة من جهة، ومعركة بناء الداخل من جهة أخرى. فالمواجهة الخارجية لا يمكن فصلها عن بنية الداخل. إذ لا يمكن لجماعة مقاومة أن تفرض معادلات جديدة فيما مجتمعها يتآكل بفعل الفقر، وانعدام الثقة بين مكوناته، وانهيار المؤسسات الرسمية التي ترعاه.

الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم كان لافتًا من هذه الزاوية. ففي نبرته ومضمونه، بدا واضحاً حجم الاهتمام والتركيز على الجبهة الداخلية. حديثه عن بناء الدولة، وعن أن الحزب جزء من هذا العهد، وعن ضرورة الإصلاح، كلّها إشارات إلى قناعة بأن الانتصار على إسرائيل ومشاريعها وأطماعها في المنطقة يمرّ أيضًا من بوابة إصلاح الداخل اللبناني. هذا ولسنا في صدد توزيع مسؤولية الأزمات الداخلية التي يعيشها لبنان، من فقر وجوع وانهيار مؤسسات، فهذه الأزمات تراكمت نتيجة سياسات وفساد ممتد لعقود. إلا أن ما يُنتظر من الحزب، بصفته أحد أبرز القوى السياسية والشعبية، أن يكون فاعلًا أكثر في الشأن الداخلي، وأن يسهم بوضوح في معركة بناء الدولة وتعزيز الثقة بالمؤسسات. وهذا ما يعيد تصويب البوصلة: لا مقاومة فاعلة من دون مجتمع سليم.

إن معركة الداخل، لا تقلّ أهمية عن الصراع مع العدو الإسرائيلي. بل لعلها اليوم هي المعركة التي يتوقف عليها مصير لبنان كله. فإما أن نُصلح ما تهدّم، ونبني دولة قادرة عادلة، أو نستمرّ في التآكل البطيء إلى أن نجد أنفسنا على أطلال وطن لم يعد موجودًا.


الأكثر قراءة

تناغم بين حزب الله وعون... والهوّة تكبر مع سلام! لا ثقة «إسرائيليّة» بضغوط ترامب: لبنان ليس سوريا مُفاجأة اتحاد بلديات المتن تربك «معراب» و«الصيفي»