اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

كم كنت أود أن أكون حاضراً مكرّماً بين المكرّمين زملائي في حفل التكريم بتاريخ 16/6/2025، منهم من التقيت به على مقاعد الدراسة من الصف الثاني عشر وحتى صف الفلسفة في مدرسة الفرير للإخوة المريميين في جونية وديك المحدي (شانفيل)، ومنهم في جامعتي القديس يوسف والحكمة، ومعهم كلهم في المحاماة منذ أكثر من خمسين عاماً.

إنما حصلت ظروف شديدة الخصوصية حالت دون رغبتي هذه، أحتفظ بها دون الإفصاح عنها، مهنئاً المكرّمين جميعاً، متمنياً تفهّم موقفي الذي اتخذته غصباً عني، وقبولاً اعتذاري، ناشراً كلمتي بالمناسبة، وهي الكلمة التي أرسلتها إلى كل زميل مكرّم في يوم التكريم، بواسطة البريد الإلكتروني أو بالواتساب على رقم الهاتف.

الزملاء المكرّمون، الحضور الكريم، خمسون سنة ونيّف في المحاماة، مرّت على انتسابنا إلى نقابة المحامين في بيروت، عشناها مع كبارنا، وسرنا على خطاهم، نوشي من كل سنة من سنيننا خيطاً في نسيج رداء المحامين، وهناك أمام أقواس المحاكم رفعنا لواء الحق والعدالة والحرية، يوم كانت المحاماة في أوجها، ويوم كان لبنان دولة.

حفل التكريم، انطلق لأول مرة سنة 1957 في عهد النقيب فؤاد رزق، تكريماً للنقيبين جبرائيل نصار ووديع نعيم، وأقيم بحضور رئيس الجمهورية كميل شمعون ووزير العدل آنذاك المحامي كاظم الخليل وسائر المسؤولين.

وسنة 1969، رأى النقيب فايز حداد تكريس هذا الحفل كتقليد سنوي، فأقيم بحضور رئيس الجمهورية شارل حلو وأركان الدولة.

وسنة 1974، أحيت نقابة المحامين في عهد النقيب وجدي الملاط حفل تكريم للنقباء السابقين إلياس نمور، وفؤاد الخوري، وإدمون كسبار، وفؤاد رزق، والأساتذة إدوار نون، إلياس جَهشان، وفيليب درغام. وقد تلا الحفل عشاء في القصر الجمهوري قلّدهم خلاله الرئيس سليمان فرنجيه أوسمة رفيعة.

من الكتاب الماسي للنقابة - لم ينقطع النقباء السابقون عن إقامة هذا الحفل سنوياً، إلى أن اندلعت الحوادث سنة 1975 وأدت إلى انتكاس الاستقرار في الوطن، فتَعذّر على النقابة إقامة هذا الحفل، إلى أن أُعيد إحياؤه في عهد النقيب سمير أبي اللمع سنة 1992، وحافظت النقابة على هذا التقليد ولم تنقطع عنه إلا لظروف قاهرة.

واليوم، رأى النقيب ومجلس النقابة إعادة إحياء هذا التقليد، مع بداية عهد جديد في لبنان بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ما نستشف منه كل أمل بقيام الدولة. ألا سدّد الله خطاه فيما يرمي إليه ونرمي.

ومن حسن طالعنا، أن نكون مكرّمين هذه السنة، ومن بيننا النقيب سليم الأسطا المتكلّم باسمنا، بحضور لودي مسعود، نادر، عضو مجلس النقابة سابقاً، مكرّمين معنا.

أيها المكرّمون، طيلة خمسيننا في المحاماة، صادفتنا فترات استقرار أمني وقضائي، زاونا خلالها المهنة برصانة وجدية، على خطى من سبقنا من كبار، أسهموا في إعلاء شأنها وشاركوا في وضع دستور الدولة وقوانينها، وصادفتنا فترات أليمة، أرخت حوادثها على أوضاع الدولة ومؤسساتها وإداراتها فتهالكت وتعطّلت أعمالنا، وصمدنا في كنف نقابتنا التي بقيت عصيّة على الزمن وغدراته، بتوحّد المحامين حولها، لم تفرّق بينهم لا المصالح الشخصية ولا المذاهب ولا الطوائف ولا المناطق، وأكملنا، لم ينل منا اليأس ولم تدغدغ إرادتنا الهجرة، ولا الظروف الاقتصادية والمعيشية، ولا القضاء غير المستقر، ولا تدهور العملة الوطنية، وأكملنا، شاعرين أن السيف قلم، مغلف بالكتاب، موقفنا الفاصل بين الحق والباطل، بين الصح والغلط، بين العدالة والظلم، بين الاستسلام والحرية، حبّذا لو يتوحّد اللبنانيون حول وطنهم، على ما توحّد المحامون حول نقابتهم، فيسلم لبنان.

أيها المكرّمون، قبل الخمسين في المحاماة، بين البعض منا، لقاء أقدم من الخمسين، يعود إلى أيام الدراسة في مدرسة الفرير للإخوة المريميين في جونية وديك المحدي، ومن بعدها في جامعتي القديس يوسف والحكمة، بينما جميعنا خمسين سنة وأكثر جمعتنا منذ الانتساب إلى نقابة المحامين في بيروت وأمام أقواس المحاكم وفي قصور العدل، بينكم جميعاً وبيني تقدير مني لانتخابكم لي عضواً في مجلس النقابة لدورات خمس، آخرها انتخابي نقيباً سنة 2011، ما أولاني شرف أن أكون مكرّماً معكم، فشكراً لكم وهنئياً لنا هذا التكريم.

كم كنت أتمنّى، لولا الفسحة الضيّقة من الوقت لكلمتي، أن أذكر بالاسم كل واحد منكم، أكبر فيه دفء الصداقة والمودّة وأعدّد مزاياه في العلم والمعرفة، وأسرح إلى عوالم زمن حَلّت فيه حميد الخصال في التعامل بأخلاقيات عالية، أستعيد ذكريات ومواقف، تموج في خاطري، أرسم منها صورة ما أنتم عليه في المحاماة، رفلت بكم وتمايلت وشمخت عزاً وكرامة ومناقبية.

وأغتنم المناسبة، للفتة صادقة لزملاء لنا، دعاهم الله إليه قبل خمسينهم في المحاماة، حبّذا لو كانوا حاضرين معنا ليُعلّق على صدر كل منهم ميدالية يستحقونها.

وعلى هامش كلمتي، في مجرى همومنا القضائية، كثيرة هي الأمور، إنما الأهم، مواكبة قانون استقلالية القضاء لإقراره، علّه يثبّت استقلالية القضاة، وسد النقص في أعداد القضاة من المحامين ما يُساهم في البتّ في الدعاوى العالقة، وأخصّها جريمة مرفأ بيروت طيّاً نهائياً لهذا الملف ما يُبلسم جراحاً لم تندمل، كما وملفات ودائع المودعين ومنهم ودائع النقابة واستعادتها كاملة ما يُعيد الثقة بالقطاع المصرفي، ووضع حدّ نهائي للفساد المستشري وتحريك الملفات العالقة وما يستجد منها، إلى سواها من القضايا التي لا مجال لتعدادها، ما يُعيد ثقة اللبنانيين والمستثمرين بالقضاء، الذي بدونه لن تُجدي محاولات الإصلاح التي هي السبيل الأساسي إلى دولة القانون التي ننشد قيامها بكل أمل.

ألا أبعد الله عن لبنان خيبات الأمل.

أيها المكرّمون، جيلنا جيل آمال، ومن صدق هذه الآمال، يُولد لبنان جديد، نمضي فيه لسنين آتية، وعلى صدر كل منّا الميدالية النقابية، كللتنا بها نقابتنا العاتية على الظلم بالمحبّة، على الحقد بالتسامح، على الغدر بالتعالي عنه، على درء الأخطار بالشورى، على اجتراح الحلول بالتروي، على الاحتكام للديمقراطية بأصولها الحضارية، كما يمارسها المحامون اللبنانيون ونجحوا، أو لم يحن بعد الوقت أمام المسؤولين للتحلي بهذه الصفات لخلاص لبنان من أزماته.

أيها المكرّمون، طيلة خمسين سنة، تخطينا المحن، لم يُدرك الوهن صوتنا، ولا غلب العمر عودنا، ولم تكل عزيمتنا، وأكملنا بكل ثقة وإيمان بالمحاماة مهنة تُحاكي التطور والتجدد، نضعها أمانة لأجيال صاعدة واعدة، تطيب من ماضينا مستقبلاً زاهراً لهم، في نقابة نراها صورة مصغّرة عن وطن نحلم به وإليه نطمح.

منذ بدايتنا، زاولنا المحاماة وقوفاً، ووجب علينا أن نظل واقفين، فالمحاماة مهنة الواقفين لا الجالسين، ننتمي إلى أجيال سبقتنا منذ مئة وست سنوات من عمر النقابة، وكانوا دوماً واقفين، ونحن في خمسيننا في المحاماة، ما زلنا واقفين، وسنكمل وقوفاً إلى ما قدّر الله.

*نقيب المحامين سابقا 

الأكثر قراءة

الارهاب يقرع أبواب مسيحيي سوريا المنطقة في المجهول بعد قرار ترامب الانخراط بالحرب ايران تتجه لاغلاق مضيق هرمز... وتداعيات كارثية مُرتقبة على دول العالم