اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


يقبع الملعب البلدي في قلب الطريق الجديدة في العاصمة بيروت وحيدا شاحبا مهملا منذ سنوات، فهذا الملعب الذي تم تجديده بالكامل عام 1997 يبدو حاليا هرما لا يلتفت إليه أحد من المسؤولين والقيمين على لعبة كرة القدم.

وكم علت صرخات أهالي المنطقة المحبين والغيارى على الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص لإنقاذ هذا الصرح التاريخي الذي يعود تاريخ إنشائه إلى زمن الانتداب الفرنسي في عام 1935 ويومها افتتح بمباراة بين الجيش الفرنسي ومنتخب بيروت كانت باكورة انطلاق النشاطات الكروية المتلاحقة في ما بعد.

وذات يوم حمل الملعب البلدي هموم القضية الفلسطينية، وكان زعيم منظمة فتح السابق ياسر عرفات "أبو عمار" يلقي خطاباته السياسية والثورية من على مدرجاته أيام الحرب الأهلية، وسط عرض عسكري لرجال منظمته الذي طالما هددوا وتوعدوا بهزيمة إسرائيل شر هزيمة، وفي الوقت عينه كانوا مسيطرين على منطقة الملعب والفاكهاني وصبرا وشاتيلا..، كما استقبل النازحين من العدوان "الإسرائيلي" على جنوب لبنان عام 1978 الذين وفدوا إلى العاصمة داخل خيم قماشية، وشهد أول صلاة عيد أضحى مشتركة "ميكست" بين السنة والشيعة حين أمّ المفتي الجعفري الممتاز محمد مهدي شمس الدين المصلين بحضور المفتي حسن خالد عام 1983، وتحول إلى مرآب للسيارات بين عامي 1979 و1980.

استقبل حفلات فنية وغنائية، ومهرجانات انتخابية عديدة أبرزها بحضور الرئيس رفيق الحريري، كما أقامت على أرضه جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية حفلها المئوي بحضور رئيس الجمهورية أمين الجميل الذي أطلق عليه يومها حين زار بيروت الغربية قادما من الشرقية لقب "أبو علي".

وفي أواخر الحرب الأهلية وتحديدا عام 1987 استضاف ضباط وجنود وآليات الجيش السوري الذين حولوه إلى ثكنة عسكرية شبه دائمة، وتلقى الملعب البلدي القذائف والصواريخ خلال "حرب التحرير" التي أطلقها الجنرال ميشال عون عام 1989 ضد الوجود السوري.

وفي عام 1996 تم تجديده بالكامل في عهد الرئيس الياس الهرواي وبإيعاز وتمويل مباشر من رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، على اعتباره الزعيم السني الأحب والأقرب إلى أهل منطقة الطريق الجديدة، قبل استحقاق استضافة لبنان للدورة الرياضية العربية التي افتتحت على المدينة الرياضية 1997 وأقيمت على أرضية الملعب البلدي عدة مباريات.

وفي مطلع التسعينات استضاف العديد من مباريات الدوري اللبناني لكرة القدم بعد عودة النشاط الرسمي الذي غاب منذ عام 1975.

أما بالنسبة لأبرز المناسبات الخارجية، فحدث ولا حرج عن حجم المباريات التي أقيمت على أرضه وخصوصا بنموذجه القديم على الطراز الفرنسي بعدما ترك الانتداب إرثا معماريا حضاريا، ومن أبرز المباريات لقاء جمع منتخب لبنان مع منتخب المجر "العظيم" في شباط 1956 والذي حضر بكامل نجومه إلى بيروت أمثال بوشكاش وهيديكوتي وكوتشيش ويومها فاز الضيوف بنتيجة ساحقة 9-1.

كما استضاف فريق الأنصار فريق باستيا حامل كأس فرنسا في شباط 1981 ويومها فاز الضيوف 1-0 سجله نجم منتخب الكاميرون الشهير روجيه ميلا.

وبالمناسبة، كان فريق الأنصار يعتمده ملعبا رسميا لمبارياته وتدريباته لقربه من مقر النادي الذي يبعد أمتارا معدودة عن بوابته الرئيسية.

غياب البلدية

أما اليوم فإن حالة الملعب البلدي يرثى لها بعدما أصابه الاهمال المتعمد والناتج عن كيدية سياسية وطائفية ومناطقية، وهناك تداخل الصلاحيات بين الدولة والبلدية إذ يتبع الملعب إداريًا لبلدية بيروت، لكن إدارة النشاطات الرياضية تقع غالبًا ضمن صلاحيات وزارة الشباب والرياضة والاتحاد اللبناني لكرة القدم هذا التضارب في المسؤوليات يجعل قرارات التطوير بطيئة أو غير فاعلة، وأيا تكن التبريرات فلا بد من تحديث القوانين البالية بدلا من تقاذف كرة المسؤولية، فالاتحاد اللبناني لكرة القدم يلوم البلدية والبلدية ترجع الأمر إلى قرار سياسي، ووزارة الشباب والرياضة لا تكترث لأن هذا الأمر ليس من صلاحيتها وهكذا دواليك.. حتى يصبح الملعب وقفا، علما أن مفهوم مصطلح الوقف يعني أن أي وقف هو للاستفادة منه على مدار السنوات وليس إهماله حتى يتآكل مع السنوات والأيام ويصدأ كما يصدأ الحديد.

هناك غياب التمويل والنية السياسية إذ لا توجد أولوية رسمية لاستثمار جدي في إعادة تأهيل الملعب، مقارنة بملاعب أخرى (مثل جونية، صيدا، المدينة الرياضية).

ولا يغفل عن بالنا الفساد أو الهدر الإداري قد يكون أيضًا عائقًا خفيًا. وغياب رؤية رياضية موحّدة في بيروت فعلى معظم الأندية رفع الصوت عاليا والمطالبة بإعادة إحياء الرمز التاريخي للمنطقة والعاصمة وأيضا لا بد من مطالب شعبية من أهالي منطقة الطريق الجديدة على وجه الخصوص.

لقد كانت هناك محاولات فردية سابقة ولكنها لم تبصر النور واصطدمت بعقبات بلدية وأهمل الملف في أدراج رئيس البلدية، عندما طالب رئيس نادي الأنصار نبيل بدر باستصلاح أرضية الملعب على نفقته واستثماره لعدة سنوات قادمة متعهدا أن يعيد زراعته بالعشب الطبيعي وصيانة المرافق العامة والصحية وإنارة الملعب وغير ذلك، لكنه جوبه بالرفض ربما لنكايات سياسية خالصة كما اعتدنا عليها في لبنان.

لقد تم انتخاب مجلس بلدي جديد لبيروت في العام الجاري، ولا بد لهذه البلدية أن تتحرك وتولي أهمية خاصة لهذا الملعب الحيوي، وقيل في السابق إن النية هي لهدم الملعب وبناء مرآب خاص للسيارات وحل أزمة السير الخانقة في المنطقة المحيطة به ومن ثم بناء ملعب جديد.. ولكن هيهات هيهات من هذا الحديث الفارغ الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولطالما ترددت الشعارات الرنانة ومنها اطلاق اسم المدرب الوطني الراحل عدنان الشرقي على الملعب البلدي، ولكن من يعيش في جمهورية الفوضى والوعود لا يمكن له أن يصدق كل ما يسمع بعد اليوم.

على أقل تقدير افتحوا أبوابه أمام شباب وأولاد المنطقة ليجدوا لهم متنفسا حضاريا رياضيا وثقافيا، بدلا من الانجرار وراء الموبقات والانحراف نحو الأمور السيئة التي تولد الجريمة والسرقات والانحدار نحو الدرك الأسفل من قلة الأخلاق.. فمن فتح معقلا رياضيا حضاريا كأنه أغلق سجنا وخصوصا في هذه الأيام العصيبة والصعبة التي تمر على البلد.

إن ملعب بيروت البلدي ليس مجرد ملعب رياضي، بل هو ذاكرة حية تختصر حقبة مجد شعبي كروي في العاصمة بيروت، ويستحق اهتماما وتحديثا ليعود إلى دوره الحقيقي والريادي في الرياضة اللبنانية. 

الأكثر قراءة

بري الذي أذهل المبعوث الأميركي