اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب



حين يوقف الزمن عقارب الساعة على 6:07... والعدالة ما تزال تنتظر الولادة

قبل أن يسقط الزجاج،

كان الكلام قد احتبس في الحنجرة.

قبل أن يهتزّ المرفأ،

اهتزّت عيونٌ كانت تطبخ، تُرضع، تُغنّي، وتغسل وجوهها بالطمأنينة.

بيروت لم تُقصف.

بيروت خُذلت.

أُخذت من خاصرتها، ومُزّقت أمام أعين أبنائها،

ولم تُبكِ أحدًا… لأن الجميع كان يصرخ في الداخل.

لم نكن نعرف أن الهواء يمكن أن يُنحر،

وأن البيت يمكن أن يختفي من دون أن يتحرّك من مكانه.

لم نكن نعرف أن الساعة 6:07

ستعلّق فينا، وتعيش أكثر منا، وتُشيّعنا كل عامٍ من جديد.

مرّت خمس سنوات.

لكن الرابع من آب... لم يمر.

"بنتي اختفت فجأة... لا صوت ولا أثر"

شهادة من قلب الخراب

في شارع مار مخايل، كان فادي يحمل طفلته ذات الثلاث سنوات في لحظة شراء بوظة من دكان قريب عندما حدث الانفجار. يروي بحسرة:

"كنت ماسك إيدها، وفجأة صار فراغ... لا بنتي، لا صوت، لا مكان، لا أنا."

هذه الشهادة وردت في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الصادر في 3 آب 2021، الذي يوثق معاناة العائلات وانعدام العدالة في ملف انفجار المرفأ بسبب التدخلات السياسية وغياب الحصانات القانونية.

أبطال بيروت بين الركام: رجال لا ينكسرون

حين انقلبت العاصمة إلى رماد ودخان، وقف رجال الإطفاء والإنقاذ في الصفوف الأمامية. محمد، أحد رجال الإطفاء في فوج بيروت، قال:

 "كان الانفجار صاعقة، لكننا لم نغادر. أنفاس الناجين هي التي أعطتنا القوة لنستمر."

ورغم صمت الأضواء، ظل هؤلاء الأبطال يحملون جراحهم في صمت، ويبنون أمل المدينة من تحت الركام.

تحقيق مشلول وعدالة مقيدة بالحصانات

رغم مرور خمس سنوات على الكارثة، لم تُسجّل أي محاكمة تَدين مسؤولًا سياسيًا أو أمنيًا. القاضي طارق البيطار الذي حاول تحريك التحقيق، تعرّض لتعطيل مستمر عبر دعاوى قضائية قدمها نواب ووزراء متهمون.

وفق تقرير وكالة "رويترز" في 1 آب 2023، استمر تجميد التحقيق بسبب رفض البرلمان رفع الحصانات، بينما أظهرت إحصائيات موقع "Legal Agenda” أن القاضي بيطار يواجه 38 دعوى قضائية من المسؤولين المتهمين.

هذا الواقع يشكل خنقًا ممنهجًا للعدالة، تعيشه بيروت أمام أنظار العالم.

الخسائر المادية والإنسانية: أرقام لا تكفي لوصف المأساة

بلغ عدد ضحايا الانفجار أكثر من 218 قتيلًا، و7000 جريح، و300 ألف مشرد، حسب تقرير "الإسكوا" لعام 2020، الذي وصف الحدث بأنه "نكبة وطنية لا تقل فداحة عن الحروب".

أما البنك الدولي، فقدّر الخسائر المباشرة بـ3.8 مليار دولار، بالإضافة إلى 2.1 مليار دولار أخرى في القطاعات الحيوية كالسكن والطبابة والبنية التحتية.

لكن الخسارة الأعمق، التي لم تُقَيَّم بعد، هي خسارة الثقة بالسلطة، وبالوطن ذاته.

بيروت اليوم: مدينة تخاف من نوافذ الذكرى

في ذكرى الرابع من آب، تختبئ المدينة خلف ستائر مغلقة، وتغلق محالها مبكرًا، في مشهد يعكس الألم والحنين.

هالة، ممرضة في مستشفى الجعيتاوي، تقول:

 "صار عنا خوف من الذكرى. نطفّي الأنوار قبل الوقت. الناس تمشي وكأنها أشباح، تضحك كيلا تنهار."

بيروت تغيرت... صوتها خفت، ووجوه أهلها تعكس فقدان الأمان.

الحقيقة المدفونة... والعدالة التي لم تولد

الرابع من آب ليس يومًا عابرًا، بل مقبرة مفتوحة تدفن فيها الحقيقة كل عام. لم نرَ مسؤولًا خلف القضبان، ولم تُرفع كلمة اعتراف، ولم تُعلن خطوات جدية للعدالة.

في بلد تُحرق فيه العدالة بورق الحصانات، يصبح الصمت جريمة، والكتابة مقاومة.

 هل تُولد العدالة قبل أن تموت بيروت؟

الرابع من آب ليس ذكرى فقط، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية. العدالة ليست خيارًا، بل ضرورة لاستعادة الثقة والكرامة. بيروت تنتظر أن تُسمع، تنتظر أن تُحتضن جراحها، وتنتظر أن يعيش أبناؤها في وطن لا يخافون فيه من نوافذ الذكرى.

هل سنقف إلى جانب بيروت؟ أم سنتركها تنزف جرحها بلا نهاية؟

الأكثر قراءة

الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ: القرار الظني قاب قوسين او أدنى مشاورات «ساخنة» تسبق جلسة «حصرية السلاح».. وتحركات سياسية مرتقبة