اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

على مرّ العقود، شكّل الجنوب اللبناني خط الدفاع الأول ضد سلسلة من الصراعات المتتالية، تكبّد جرّاءها خسائر فادحةً في أرواح سكانه وممتلكاتهم، وشهِدَ على تدمير بنيته التحتية. إن التهديد الوجودي الذي يواجهه الجنوب اليوم ليس قصفًا أو غزوًا، بل هو نزوح صامت ومستمر لسكانه، وهو ما يمكن اعتباره تهجيرا جماعيا أو حركة سكانية مدفوعة بالحرمان الاقتصادي والتخلي السياسي، وبنية اجتماعية واقتصادية تتهاوى تحت وطأة ثقل الحمل. وهذا النزوح يشكل تهديدًا بتفكيك هوية هذه المنطقة.

لم تَقِلّ قوة وعزم الجنوبيين المتجذرين في أرضهم على مرّ الوقت، إلا أن قدرة المرء على التحمّل لها حدود. فما بين الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعياتها على الجنوب ولبنان عامّة، والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة والتي خلّفت دمارًا واسعًا استهدفت البشر والحجر، دون تعويضات مناسبة وخطط إعادة إعمار مُجدية، يتسأل المرء عن قدرة الجنوبيين على التحمّل والثبات في أرضهم التي طالما دفعوا الغالي للحفاظ عليها.

غياب الرؤية وتعميق التهميش

على مرّ العقود، غابت الرؤية الاستراتيجية المتماسكة للجنوب اللبناني. إذ ان الحكومات المتعاقبة فشلت أو تخاذلت في وضع هذه المنطقة (كما العديد من الأطراف) على لائحة الأولويات الوطنية. أكثر من ذلك شكّل الجنوب اللبناني ساحةً للتجاذبات الإقليمية والدولية، حيث تُرى مشاكله في أبعاد أمنية/عسكرية على حساب التنمية المستدامة الطويلة الأجل والاحتياجات الأساسية لسكان الجنوب.

تضمّن الإهمال المنهجي الحكومي الفشل في إيجاد مصادر دخل جديدة للجنوبيين تُثبّتهم في أرضهم، وفي إعادة بناء البنية التحتية المدمرة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية وتحولت وعود إعادة الإعمار التي قُدمت في نهاية كل موجة عنف، إلى خيوط دخان في أروقة البيروقراطية والفساد السياسي، تاركةً السكان لمصيرهم.

ثمن اقتصادي هائل

يدفع الجنوب ثمنًا اقتصاديًا مضاعفًا جراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب لبنان. فإلى جانب ارتفاع الأسعار بشكل غير معقول وتراجع قيمة الليرة اللبنانية، يواجه القطاع الزراعي – ركيزة الاقتصاد في الجنوب، تحدّيات كبيرة، إذ تسببت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في تدمير الأراضي الزراعية وتلويثها بالفوسفور وتعطيل مرافق المياه، إلى جانب المخاطر المستمرة المتمثلة في القذائف والقنابل غير المنفجرة التي تعيق استصلاح الأراضي واستعادتها.

الوضع الأمني المتقلب والانطباع السلبي الذي يرسمه عن المنطقة، يشلّ قطاع السياحة في الجنوب والذي كان من الممكن أن يكون محركًا اقتصاديًا للاقتصاد الجنوبي بفضل المواقع الأثرية والطبيعية الجميلة التي يمتلكها.

ويأتي غياب الاستثمارات عن المشاريع التنموية والاقتصادية التي من المفروض أن تؤمّن فرص عمل حقيقية للشباب، ليُساهم في تعميق الأزمة من باب زيادة معدّلات البطالة وهو ما يدفع شباب الجنوب إلى الهجرة بحثًا عن فرص عمل في أماكن أخرى! حتى ان سكان الجنوب أصبحوا يعتمدون بنسبة كبيرة على التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون، وهذا الأمر ليس بحلّ اقتصادي، ولا يشكّل أساسًا لاقتصادٍ مستدامٍ.

نسيج متصدع وأمل متآكل

إجتماعيًا، تُحدث الهجرة المستمرة شرخًا كبيرًا في البنية الاجتماعية الجنوبية المتماسكة. فهجّرة الشباب الجنوبي الموهوب والمُنتج يُحدث فجوة هائلة في القدرات المحلية، ويقوّض الحيوية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. ولا يُخفى على أحد أن تشتت العائلات وتباعد أفرادها في الخارج أو ضمن لبنان يسلب الجنوب اللبناني جزءًا من هويته وذاكرته الجماعية. ويزداد الأمر سوءًا مع فقدان بعض العائلات أطفالهم أمام أعينهم!

أضف إلى ذلك النقص في الخدمات الأساسية من رعاية صحّية وتعليم وفرص عمل، وهو يُعدّ سببًا آخر لتحفيز هجرة الشباب الجنوبي حيث تُضطرّ العائلات الجنوبية الساعية إلى تأمين حياة كريمة لأولادها إلى البحث عن فرصة أخرى في مناطق أخرى أكثر استقرارًا ساء في لبنان أو في الخارج.

نهج شامل للإنقاذ

مع تفاقم مشكلة الهجرة في الجنوب، من الضروري أن تعتمد الحكومة نهجًا شاملًا ومتوازنًا يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتعامل مع التحديات.

يجب وضع خطة تنموية وطنية للجنوب تتضمّن إعادة الإعمار ورؤية واضحة لأولويات التنمية المستدامة فيه، وأن تكون مصحوبة بميزانيات واقعية تتمشى والتنفيذ. أيضًا يجب الضغط على المؤسسات الدولية لتقديم المساعدة المالية والتقنية لدعم عملية إعادة الإعمار والتنمية في الجنوب، مع ضمان الشفافية في استخدام هذه المساعدات. ويبقى الأهم أنه يجب تحييد الجنوب عن الصراعات الإقليمية والتركيز على بناء مستقبل مستقر وغني لسكانه.

أيضًا المطلوب من الحكومة إطلاق مبادرات لدعم القطاع الزراعي وذلك من خلال توفير قروض مُيسّرة للمزارعين، ودفع تعويضات لهم في حالة تدمير مزارعهم جراء الاعتداءات الإسرائيلية، وتقديم الدعم الفني لهم بهدف تحديث الوسائل الزراعية وتسويق الإنتاج الزراعي.

ويجب العمل على جذب الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية من خلال سياسات ضريبية مؤاتية وتأمين بنية تحتية ملائمة (طرقات وكهرباء ومياه وإنترنت) للمشاريع خاصة في مجال الصناعات الغذائية الزراعية والسياحة البيئية والحرف اليدوية. كما يجب دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطّة الحجم من خلال تقديم الدعم للشباب الراغب في المساهمة في الإنتاج.

وتُعدّ الخدمات الأساسية الشرط الأول للصمود في الأرض، من هذا المنطلق يجب على الحكومة زيادة الخدمات الصحيّة والتربوية وتحسين نوعيتها. على الصعيد التربوي، من الضروري تمكين الشباب الجنوبي من تطوير المهارات المطلوبة في سوق العمل، وهو ما يُعزز فرص حصولهم على وظائف جيدة، ويُقلل من الرغبة في الهجرة. كل هذا بالتزامن مع إعادة توطين الجنوبيين في مساكن مؤقّتة في الجنوب لحين إعادة الإعمار.

الإرادة السياسية

إنقاذ الجنوب اللبناني من شبح الهجرة، يتطلّب إرادة سياسية حقيقية ورغبة راسخة، لأن غض النظر عن هذا الأمر يُعتبر جريمة ضد الوطن أكثر منه جريمة ضد الجنوبيين. الجنوب ليس مجرد خط دفاع أخير أو ساحة معركة، بل هو جزء أصيل من النسيج الوطني اللبناني، وبالتالي يستحق الرعاية والاهتمام لتأمين ازدهاره.


الأكثر قراءة

الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ: القرار الظني قاب قوسين او أدنى مشاورات «ساخنة» تسبق جلسة «حصرية السلاح».. وتحركات سياسية مرتقبة