يمثل أسلوب التربية العامل الأهم في تشكيل شخصية الطفل ونموه النفسي والعاطفي. وفي هذا السياق، يُعد الصراخ أحد السلوكيات التربوية المنتشرة في العديد من البيوت، والتي غالبا ما تُستخدم كرد فعل تلقائي من الأهل عند الغضب أو التوتر، أو الشعور بالعجز في مواجهة سلوك الطفل. وعلى الرغم من اعتقاد البعض بأن الصراخ وسيلة فعالة لفرض الانضباط، فإن الدراسات النفسية تشير بوضوح إلى أن له تأثيرات سلبية عميقة على صحة الطفل النفسية وتطوره العاطفي والسلوكي.
عندما يصرخ الأهل على أطفالهم، لا تصلهم الرسالة التربوية كما يُعتقد، بل تُزرع في داخلهم مشاعر الخوف والقلق وانعدام الأمان. فالطفل، وخاصة في سنواته الأولى لا يمتلك القدرة الكافية على فهم دوافع الغضب أو استيعاب النية التربوية خلف الصراخ، بل يفسر الأمر على أنه رفض أو كراهية موجهة لشخصه. وهذا ما يولد لديه شعورا بالذنب والدونية، وقد يزعزع ثقته بنفسه وبالبيئة التي يُفترض أن تكون مصدر دعمه الأول.
الصراخ المتكرر على الأطفال لا يترك أثرا لحظيا فحسب، بل يمكن أن يمتد تأثيره النفسي لسنوات طويلة. من أبرز النتائج التي رصدها المختصون: زيادة معدلات التوتر والقلق لدى الأطفال، ضعف احترام الذات، الاكتئاب، وتراجع الأداء الدراسي والاجتماعي. بل إن بعض الدراسات الحديثة أظهرت أن الصراخ يترك في الدماغ آثارا مشابهة لتلك التي يُحدثها العنف الجسدي، ما يدل على خطورته الشديدة.
كما أن الصراخ قد يُسهم في خلق طفل عصبي وسريع الانفعال، أو على العكس طفل مُنغلق يخشى التعبير عن مشاعره. وفي الحالتين، تتأثر قدرة الطفل على بناء علاقات صحية مع الآخرين، وقد يُصبح أكثر عرضة للمشكلات السلوكية في المستقبل، مثل الكذب والعدوانية، أو التمرد.
عندما يعتاد الطفل تلقي الصراخ من والديه، فإن ذلك يضعف الرابط العاطفي بينهما. فبدلا من أن يشعر بالأمان والدعم، قد يبدأ في تجنب الحديث مع والديه، أو يكف عن طلب المساعدة خوفا من رد فعل غاضب. هذا النوع من التواصل المشوَّه يخلق فجوة عاطفية خطيرة داخل الأسرة، يصعب معالجتها لاحقا، وقد تتطور لتصبح قطيعة في العلاقة أو صراع دائم.
يلجأ العديد من الآباء والأمهات إلى الصراخ بدافع التوتر أو الإحباط، لا بسبب سلوك الطفل نفسه. الضغوط اليومية، قلة النوم، المشاكل المادية، أو انعدام الدعم النفسي، قد تجعل من الصعب على الأهل التحكم بردود أفعالهم. كما أن بعض الأهل يكررون أنماطًا تربوية تعلّموها في طفولتهم، دون أن يدركوا أنهم يعيدون إنتاج الضرر نفسه الذي لحق بهم.
الخطوة الأولى هي إدراك خطورة الصراخ ورفضه كأسلوب تربوي. من المهم أن يراجع الأهل أنفسهم ويسألوا: "هل أصرخ لأنني أريد تقويم السلوك؟ أم لأنني فقدت أعصابي"؟ بعد ذلك، يمكن تبني أساليب بديلة أكثر فاعلية، مثل التحدث بصوت هادئ ولكن حازم، تحديد التوقعات بوضوح، استخدام العواقب المنطقية بدل العقاب، وتوفير بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر.
كما أن تعزيز مهارات التواصل الإيجابي بين الأهل والطفل، يُسهم في بناء علاقة قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، ما يُقلل من الحاجة إلى الانفجارات الانفعالية. وقد يكون من المفيد أيضا أن يلجأ الأهل إلى استشارات تربوية أو دعم نفسي، في حال شعروا بأن الضغوط تتجاوز قدرتهم على التحمل.
إنّ الصراخ على الأطفال ليس أمرا بسيطا يمكن التغاضي عنه، بل هو شكل من أشكال العنف العاطفي الذي يترك آثارا عميقة في نفس الطفل وسلوكه. ومن مسؤولية الأهل أن يدركوا تأثير كلماتهم ونبرات صوتهم، وأن يحرصوا على بناء علاقة قائمة على الفهم والتقدير، لا على التهديد والخوف. فالتربية لا تُقاس بمدى الصراخ، بل بمدى الحب الذي يُمنح للطفل، والاحترام الذي يُعلّمه كيف يحترم نفسه والآخرين.
يتم قراءة الآن
-
هل هدف زيارة الموفدين لبيروت منع الانفجار؟ المخاوف تتصاعد من مشاريع تغيّر وجه لبنان السياسي
-
بنيامين نتنياهو على أكتافنا
-
خطة الجيش لحصر السلاح... جانب سياسي وآخر تقني ــ عسكري؟ القرار القضائي يهز الوسط المالي: بداية رحلة استعادة الودائع؟
-
برّاك وأورتاغوس في باريس... ردّ "إسرائيلي" سلبي؟ تعزيزات عسكريّة على الحدود و"اليونيفيل" تهتز
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
08:15
أطباء بلا حدود: 40 وفاة بالكوليرا في السودان خلال أسبوع واحد
-
08:07
تحقيق لمجلة "972+" الإسرائيلية: إظهار صحفييين على أنهم عملاء لحماس هدفه تهدئة الغضب العالمي على قتلهم، وآخرهم أنس الشريف.
-
08:06
تحقيق لمجلة "972+" الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي شغّل وحدة خاصة تسمى "خلية إضفاء الشرعية" لجمع معلومات تحسن صورة إسرائيل دوليا.
-
08:06
تحقيق لمجلة "972+" الإسرائيلية: الوحدة كلفت بتحديد هوية الصحفيين في غزة الذين يمكن تصويرهم على أنهم عملاء لحماس.
-
07:57
رئيس الكنيست في رسالة إلى الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني: إذا أردتم إقامة دولة فلسطينية فأقيموها في لندن أو باريس.
-
07:57
رئيس الكنيست في رسالة إلى الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني: إذا تم الاعتراف بدولة فلسطينية فقد انتصرت حماس.
