اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب
يقول «مونتسكيو» في كتابه روح القوانين (De l’Esprit des Lois, 1748, livre XI, chap. IV): «إنها تجربة أبدية أن كل إنسان لديه سلطة عرضة لإساءة استعمالها، ويذهب بعيدًا في هذا الأمر حتى يجد حدودا». ويضيف «الفضيلة نفسها تحتاج إلى حدود. وبالتالي من أجل عدم إساءة استخدام السلطة، من الضروري أن تردع السلطة سلطة أخرى». ويتابع «مونتسكيو» في المرجع نفسه الفصل الخامس: «لا توجد حرية إذا لم تنفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. إذا تم ضمها إلى السلطة التشريعية، فإن السلطة على حياة المواطنين وحريتهم ستكون تعسفية: القاضي سيكون مشرعًا، إذا تم ضمها إلى السلطة التنفيذية يمكن للقاضي أن يتمتع بقوة الظالم».

تختصر هذه الأسطر معاناة الشعب اللبناني الذي يرزح تحت عبء أزمة متعدّدة الأبعاد، هي ثالث أقسى أزمة من أكثر من مئة وخمسين عامًا، كما وصفها البنك الدولي. فتحليل الواقع الاقتصادي يوصل إلى نتيجة أن كل ما يحصل حاليًا في لبنان، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، ما هو إلا نتاج عدم فصل السلطات.

يعتبر الباحثون السياسيون (Fokou 2020) أن مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات، هو أحد أعمدة الديموقراطية الليبرالية، من حيث إنه يضمن سيطرة مسبقة على السلطة من خلال السلطة. هذا التحكم المتبادل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، يبدأ بالتحديد من خلال احترام القانون الذي تخضع له السلطات الثلاث، والتي من خلالها يتم تنصيب الدستور باعتباره القاعدة الأساسية للدولة الحديثة. على هذا الصعيد، تنص شرعة حقوق الإنسان في المادة 16 أن «أي مجتمع لا يتم فيه ضمان الحقوق ولا يتم تحديد الفصل بين السلطات، ليس له دستور». وهنا بالتحديد تنشأ أهمّية فصل السلطات وتوازنها، كضمان دستوري ومؤسسي للحقوق الأساسية للمواطن ضد التعسف والاستبداد لسلطة الدولة وداخلها.

في الواقع، وَصَفَ «مونتسكيو» في كتابه تداعيات خضوع السلطة القضائية للسلطة التشريعية وخضوعها للسلطة التنفيذية، إلا أنه لم يتم ذكر حال خضوع كل السلطات للقوى السياسية نفسها. الواقع السياسي اللبناني الذي ينسحب حكمًا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، هو نتاج عدم فصل السلطات وتشابكها، من خلال المحاصصة التي تقوم بها القوى السياسية على الصعيد الحكومي والقضائي والإداري. فالحكومات والقضاء هي صور مصغّرة عن المجلس النيابي الذي تُشكّله القوى السياسية، أضف إلى ذلك المناصب الإدارية التي تُعيّنها السلطة التنفيذية. كل هذا محى التوازن والفصل الذي تفرضه روحية القوانين كما وصفها «مونتسكيو»!

السياسات الاقتصادية التي تضعها السلطة التنفيذية، في إطار ما يُسمّى بالموازنة العامة، هي عرضة للمساءلة من قبل السلطة التشريعية التي من صلاحياتها سحب الثقة بالحكومة. وهو أمرٌ لم نره في تاريخ لبنان الحديث! العجز المزمن في هذه الموازنات، والذي امتدّ منذ ما بعد الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا، لم تتمّ مساءلة الحكومات عنه من قبل المجالس النيابية. والإنفاق من دون اعتمادات في الموازنات لم تحاسب عليه السلطة القضائية (المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية)، والأصعب أن هذه الأخيرة لم تلاحق الفساد بسبب التدخل السياسي في عمل القضاء على مرّ عقود.

كيف يُعقل أن بلدًا يعيش عجزًا في الحساب الجاري وعجزًا في الموازنة، ولا يعلم القيمون عليه من السلطتين التنفيذية والتشريعية أن هذا البلد ذاهب إلى الهلاك؟ كيف يُعقل ألا يكون هناك احترام للقيود على الموازنة بهدف ضمان انتظام المالية العامة؟ أين احترام القيود على الموازنة؟ أين حسابات استدامة الدين العام؟ ألم يعِ المعنيون أن عدم احترام القيود يوصل إلى التعثّر؟ مَن سأل عن كل هذه الأمور من السلطات الثلاث؟

لا عجب في أن يصل لبنان في إدارة اقتصاده وماليته وقطاعه المصرفي إلى ما وصل إليه في غياب المحاسبة والرقابة، التي هي في صلب العمل في الشأن العام، والتي تنبع من روحية القوانين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول نائب رئيس المجلس النيابي السابق، أن هناك 72 قانونًا غير مطبقين في لبنان! صدقت شرعة حقوق الإنسان عندما قالت إن «أي مجتمع لا يتم فيه ضمان الحقوق ولا يتم تحديد الفصل بين السلطات، ليس له دستور». ولبنان الذي لا ضمان للحقوق فيها ولا فصل بين سلطاته، أصبح مواطنوه رهينة.

الحقيقة التي يعيشها العالم أجمع تُبقي على مبدأ فصل السلطات مبدأ مثاليا (idealtypus) لا يمكن الوصول إليه (utopie). إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، تُحدّث الدول قوانينها بهدف الوصول إلى هذا المبدأ المثالي، الذي يضمن للمواطن حياةً كريمة. من هذه القوانين يمكن ذكر (على سبيل المثال لا الحصر) آليات لتقييد السلطة وإضفاء الشرعية عليها، كما وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم في أسطورة سيادة القانون (Rule of Law).

إن الخروج من الأزمة الحالية المتعددة الأبعاد (سياسية واقتصادية ومالية ومصرفية ونقدية واجتماعية) لا يمكن أن يحصل ويكون مستداما، إلا من خلال احترام روحية القوانين وعلى رأسها فصل السلطات الذي يشكّل آلية للحدّ من الإفراط بالسلطة والاستخفاف بحياة المواطن ولقمة عيشه.

في الختام، ينبغي ذكر أهمية تطبيق ونوعية القوانين، التي يتمّ سنّها بالنسبة للاقتصاد المبني بالدرجة الأولى على الثقة وعلى الشفافية والمحاسبة اللتين تعزّزان الثقة. حتى ولو تمّ انتخاب رئيس للجمهورية وأُعيد إنتاج السلطة التنفيذية بالكامل، لا يمكن للاقتصاد أن يتعافى والإنماء المستدام يأخذ طريقه، إلا من خلال سنّ القوانين العصرية واحترامها، لإن باحترامها يُحترم الإنسان.

الأكثر قراءة

سيجورنيه يُحذر: من دون رئيس لا مكان للبنان على طاولة المفاوضات الورقة الفرنسيّة لـ«اليوم التالي» قيد الإعداد حماس تؤكد: لا اتفاق من دون وقف نهائي لإطلاق النار!