اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يرى الدكتور عبد الله الغذامي الهوية أنها "منتوج ثقافي يحضر اليوم بقوّة كأحد سمات ما بعد الحداثة، وهي ردة فعل على إخفاقات وعود الحداثة، التي كانت تعِد بالعقلانية والليبرالية والعلموية، مع تبشير مثالي بالحرية، والانعتاق الذاتي والجمعي، ولكنها وعود تبخّرت مع نيران الحرب العرقية والدينية وانتشار الأوبئة والأمراض والجشع المالي". والمتابع لنتائج سنان أنطون الأدبي، روايةً وشعرًا ونقدًا، يعرف أنّ الهوية وصراعاتها كانت الأساس الذي حكم غالبية ذلك النتاج، وقبل الدخول في تفاصيل روايته الجديدة "خزامى" (منشورات الجمل 2023)، نتذكّر معه ما قالته مها في رواية "يا مريم" الصادرة قبل أكثر من عشر سنوات، "كل ما أريده هو أن أعيش في مكان أكون فيه مثل الآخرين. أمشي وأخرج وأدخل ولا يُشار إليّ أو يتمّ تذكيري بأني مختلفة"، ليحقّق ذلك الأمر مع سامي وعمر، فيستطيع الاثنان الانتقال إلى أميركا والعيش هناك. ولكن، هل سيكونان كما تمنّت مها "مثل الآخرين"؟

توهمنا بداية الرواية بأنها ستركّز على موضوع أمراض الشيخوخة والخرف التي يعاني منها كبار السنّ، وهو أمر تبقيه الرواية من ضمن قضاياها ولكن نجد أن حضوره يخفّ مع استكمال القراءة، ومع ظهور شخصية عمر، أومار، تعود قضية الهوية إلى البروز واحتلال المساحة الأوسع.

سامي الطبيب العجوز الذي تُقتَل زوجته في العراق، فنراه يعيش مع ابنه وعائلته في أميركا، ومعاناته مع الخرف وأنواع الأمراض التي صنّفت تحته، وفي مقابله شخصية عمر الهارب من ماضيه في تلك البلاد، وهي البلاد نفسها التي يعود إليها سامي في حالات الحنين والتذكّر والنسيان التي ترافق مرضه، وهنا تكمن براعة الكاتب في اختيار شخصيتين، أحدهما يهرب بسبب كبر سنه من الغربة إلى الوطن، والآخر هارب من وطنه إلى الغربة، فيكون النسيان نعمة يتمناها عمر، ونقمة يعاني منها سامي.

عمر الذي طلب اللجوء بسبب صوان أذنه المقطوع، والذي يجري له عملية فيما بعد ويعيد له تطوّر الطب أذنه من أضلاه، الذي ظلّ طيلة حركته وأقواله وأفعاله يسعى إلى تحقيق ذلك الهروب ومحاولة الانتماء إلى بورتريكو وإلى أميركا، ولكنه عبثًا يحاول، وهنا يأتي تركيز الرواية على أن الصراع الداخلي لن ينتهي إن أنت عشت مع من تظنّ أنك ستصبح منهم، وحيث تظنّ أنك ستصبح إنسانًا ذا حقوق. فيحكم النصّ السؤال الأكبر، لماذا نبقى ننتمي إلى تلك البلاد، حيث عشنا الذلّ والقتل والقهر والفقر والذل... على أيدي أبنائها أنفسهم، مهما حاولنا الهروب وحاولنا الانتماء إلى أمكنة أخرى ومجتمعات مختلفة؟ فلا نجد إجابة في النصّ، ليبقى النصّ مفتوحًا على القلق الذي يتملّك سنان أنطون نفسه، والذي سيرافق نصوصه اللاحقة إلى أن يأتينا بالإجابة، إن استطاع.

حال سامي تأخذنا إلى التعاطف مع هذا العجوز، الذي يظنّ أنه مسجون وأن من حوله، وهم ابنه وزوجته وحفيداه، هم سبب سجنه، يتذكّرهم حينًا وينساهم أحيانًا أكثر بكثير، ليرمز بالحبّ الذي سنعامله به بوصفنا متلقّين، إلى العراق بذاته، وبلادنا العربية بشكل عام، تلك البلاد التي ما زالت تعاني من الحاضر، وبلا مستقبل واضح، وتعيش على أمجاد الماضي، ويأتي إصرار النصّ على اللهجة العراقية المشبَعة بالمحلية، والتي سيستصعبها معظم القراء من غير العراقيين، ليس من أجل إدخال العامية لتسهيل الفهم إذًا، بل للتصعيد في صعوبة الفهم، فمن منّا يفهم فعليًّا ما يجري في بلادنا؟

ينتقل السرد بين سامي وعمر من دون تنبيهات، وهو أمر جاء بسلاسة ومن غير تكلّف، فالكاتب محترف واللغة أداة طيّعة لديه، جعلت من نصّه كاملًا من جوانبه المختلفة، حيث سعى إلى تشكيل أو محاولة تشكيل وعي القارئ حول قضية الهوية من خلال محاولات الهروب والعودة، وكيف أن الفشل يحكم الحالتين، فعمر بعودة أذنه وعلاقاته مع أجنبيات، وعمله في مزرعة الماعز ومن ثمّ مزرعة الخزامى، لا يفلح في الهروب من ماضيه، وسامي الذي يعبر بين الماضي والحاضر من دون أن يكون له الخيار في ذلك، لا يفلح أيضًا في العودة ولا حتى في الاستقرار على حال واضحة، وهنا مكمن القوّة التي حكمت الصراعات في النصّ، فيقول لنا من خلال هاتين الشخصيتين، حاولوا، ولكن لن تصلوا إلى إنهاء الصراع!

مأخذ واحد على الرواية، يأتي في نهايتها، فقد جعل النصّ عمر وسامي يلتقيان، النصّ الذي أوهما بأن سامي قد يكون الطبيب الذي قصّ أذن عمر، وهي عقوبة الهارب من الجيش وقتئذ، فلو ظلّ الإيهام هو المسيطر، وكان عطر الخزامى الذي باعه عمر للممرضة وساهم في تحسّن بسيط في حال سامي، هو الرابط الوحيد بين الرجلين، لكانت الرمزية أعمق وأقوى، ولكنه جعل عمر يؤكّد الأمر بسبب ذلك اللقاء.

يبقى أن نختم بأننا أمام نصّ محكَم، لغةً وسرديّة، وشعرية أحيانًا، من شاعر وروائي وناقد ومترجم، الأدب في صميم حياته اليومية، الشخصية والعملية، لذا يأتي لنا في كلّ نص، بالجديد الذي يضيفه على تجربته الأدبية، تبقى الهوية والانتماء الأساس في جميع أعماله.

الأكثر قراءة

العثور على 6 جثث لأسرى لدى حماس مقتولين يُحدث زلزالاً في «إسرائيل» الشارع يتحرّك ضدّ حكومة نتانياهو... ونقابة العمّال تعلن الإضراب الشامل