اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

حتى آخر أيلول يكون قد انقضى 336 يوماً على الفراغ الرئاسي، مع أن الأزمة السياسية والاقتصادية، اندلعت قبل ذلك بسنوات. تصريحات وخطب ومواعظ وتعليقات ومقابلات وبيانات، بمعدل وسطي يتعدى مليون كلمة في اليوم. ما يعني أن 336 مليون كلمة انهالت على رؤوس اللبنانيين، أي أكثر مما تفوّه به مَن وُجدوا على هذه البقعة من الأرض منذ آدم وحتى انتهاء عهد الرئيس ميشال عون.

ركام لغوي ببغائي، دون أن يتمكن عباقرة الكلام من زحزحة الأزمة، أو من احداث اي تغيير ولو قيد أنملة في اعادة ترتيب المغارة. لسنا دولة ولن نكون، لسنا مجتمعاً ولن نكون. شتات قبلي، ويحاول أن يصنع المستقبل بتلك الطرابيش (الرؤوس) الفارغة، وبتلك الجحافل من راقصي وراقصات الدرجة الثالثة، شيء ما من ملهى الباريزياتا أيام القمباز والخيزرانة. عدد الأراكيل في دكانة أحمد أبو الغيط يتخطى عدد البنادق.

كل ما يحدث يظهر أننا كلبنانيين لم نكن يوماً للبنان، وقد تم تركيبه فسيفسائياً، دون القيام بأي خطوة نحو بناء ديناميات سوسيولوجية للحياة المشتركة. بقينا هكذا لكل الآخرين، الأقربين والأبعدين. على امتداد كل ذلك الأوقيانوس من الكلام، على طريقة بديع الزمان الهمذاني. حين تكون المنظومة السياسية عاجزة عن سنّ أي تشريع للخروج من القاع الاقتصادي والمالي والاجتماعي. وحين تكون عاجزة عن "فبركة" رئيس للجمهورية بصلاحيات وبمواصفات كائنات "والت ديزني". في هذه الحال كيف لنا، أكنّا لبنانيي الأبراج العالية، أم لبنانيي الشوارع، أم لبنانيي الأقبية، بناء دولة أو ادارة دولة؟

لنتذكر الاشتباكات الدموية الأخيرة في مخيم عين الحلوة وقد شلت مدينة بكاملها، وقطعت الطريق على منطقة بكاملها. هل يمكن أن يحدث ذلك في أي دولة في العالم؟ مستوطنات مسلحة ومقفلة في وجه السلطة؟ لا بأس بعضنا نثر الزهور على مواكب ياسر عرفات، وبعضنا نثر الزهور على دبابات آرييل شارون. لا تتوقعوا دولة غير هذه اللادولة، ولا شعباً غير هذا اللاشعب.

كفانا قرقعة الطناجر ـ أو قرقعة القباقيب ـ كل طرف من أطراف الداخل يريد دولة على قياسه، وتبعاً لمصالح مشغليه. تحديداً المصالح الجيوسياسية...

لا خيار أمامنا سوى الانتظار. ما نقل الينا أن لبنان بين البلدان العربية القليلة التي ستبقى في اطارها الجغرافي، ولكن دون التكهن لا بالصيغة ولا بالمسار الاستراتيجي. سوريا لن تعود كما كانت، كذلك العراق، كذلك اليمن، وصولاً الى ليبيا والسودان.

ليأخذ علماً بذلك أشقاؤنا السعوديون الذي يتطلعون الى دولة قادرة، وعلى مسافة متساوية من القوى العظمى، واشقاؤنا المصريون الذين انتقلوا من زمن محمد علي باشا الى زمن محمد رمضان. يحظر علينا، ما دامت "اسرائيل" هناك، وما دام النفط (والغاز) هناك، الدخول في الزمن، وحتى الدخول في القرن الا في عربة الدرجة الثالثة.

كلنا الآن، والى أن ينجلي المشهد الدولي، عند ذلك التقاطع الهائل بين لعبة الأمبراطوريات، ولعبة القبائل، ولغة الايديولوجيات. صديقنا المؤرح الفرنسي الفذ دومينيك شوفالييه (صاحب "العرب والاسلام وأوروبا") سبق وحذّرنا من"لاهوت العدم". ماضون في لاهوت العدم الى... أقاصي العدم !

أبعد بكثير من البلقنة. ماذا يعني تقطيع هذه المنطقة من الخليج الى المحيط (أي من قايين الى هابيل، ومن داحس الى الغبراء) بالشوكة والسكين؟ قطعة قطعة بين أشداق الذئاب. لنضع منذ الآن باقة زهر على ضريح كل من مارك سايكس وجورج بيكو، أو على ضريح كل من لويد جورج وألكسندر ملران (مؤتمر سان ريمو).

ما ينتظرنا أكثر فظاعة بكثير. من يرثي سوريا؟ وقد مات عمر أبو ريشة ونزار قباني وبدوي الجبل. ومن يرثي العراق؟ وقد مات محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ومن يرثي مصر؟ وقد مات أحمد شوقي وأمل دنقل والشيخ امام. ومن يرثينا كلنا؟ وقد مات أبو الطيب المتنبي، وماتت الخنساء. وقد رثانا قبل ألف عام أبو العلاء المعري.

ثمة من يوجد ليرثينا، لكننا لا نعلم من يرثنا. في سورة مريم "نحن نرث الأرض ومن عليها". هذا في النص الالهي. في النص البشري، آلهة يرثون أرضنا وأرض الله وما عليها...

الأكثر قراءة

زلزال قضائي: توقيف رياض سلامة... ماذا في المعلومات ولماذا الآن؟ الضغط الدولي غير كافٍ في احتواء إجرام نتنياهو تعزيزات الى الضفة الغربية... وخشية من تكرار سيناريو غزة