اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

أن تكون قارئًا محظوظًا يعني أن تحصل على رواية عصور دانيال في مدينة الخيوط (دار العين 2022) للمصري أحمد عبد اللطيف بصدفة غير مقصودة، ولا تعرها اهتمامًا كما أعرت الكتب الأخرى... تؤجّل القراءة مرارًا، ومن ثمّ تقرأ فيستفزّك النصّ الذي لا يستخدم فيه كاتبه علامات الوقف والترقيم! تقرأ، وتتعمّق، وتستمع بهذا النصّ الاستثنائي...

يوهمك النصّ في بدايته بأنك أمام رواية عجائبية، في مدينة سكانها من الدمى، ومجزرة حدثت لدمى، ودمية اسمه دانيال يروي مشاهداته ويصفها. وبما أنّ الدمى هي شخصيات النصّ، فتقول في نفسك إنّ سببًا مرتبطًا بالعجائبية المقصودة من الكاتب سيتوضّح فيما بعد جعله يستغني عن النقطة والفاصلة وعلامات الاستفهام والتعجّب وغيرها... فتجد أنك مخطئ وأنّ أسبابًا أخرى ليست واضحةً بعد هي خلف هذا التخلّي، وفي حين أنتَ مقتنع بأنّ النصّ سائر في اتجاه واحد، تطالعك الفصول المنضوية تحت الفصل الأول "تقرير دانيال الخيالي عن دانيال الحقيقي أو العكس (من أرشيف دانيال)" باستخدام النقطة، والنقطة فقط، ولماذا العصر الأول الآن، لأنّ النص بدأ بالعصر الرابع.

ولكن لماذا تغيّر رأيك حول فكرة العجائبية؟ لأنّ الدمية لا تعود دميةً، من ثمّ تعود دمية مع الدمى التي تعود حينًا دمى وأحيانًا كثيرة نراها بشرًا، ليقودك سريعًا نحو الصراعات النفسية التي ستحكم النصّ وتتولّى زمام الأمور، فتجد نفسك أمام دانيال ودانيال، ابراهيم ودانيال والشيخ ودانيال والأب ودانيال، ودانيال الذي ضُرِب ليحصل على ندبة في الخدّ وتشويه في اللسان، لماذا؟ لأنّه قتل الشيخ المغتصِب، أو بالأحرى تسبّب بقتله. دانيال الذي انتقم لابراهيم، ومن ثمّ نعرف أن انتقم لنفسه ولكل طفل تعرّض للتحرّش والاغتصاب من ذلك الرجل، تبقى هذه الحادثة هي المتحكة في حياته وفي مرضه النفسيّ الذي يحكم شخصيته في نهايات سنّ الثلاثين، فيعيش الأوهام والتشوّهات النفسية والعاطفية والفكرية، يقتل ويسرق ويحاور ويحدث تغييرًا في أحوال مجتمعه، ولكن هل حقًّا فعل؟ أم كان ذلك داخل "دانييلات" كثيرة تظهر وتختفي داخله بحسب الحالة.

تقول لنفسك إنه نصّ يطرح قضايا الأمراض النفسية وآثارها وأسبابها، والسبب هنا تعرُّض طفل للاغتصاب، ولكن تُفاجأ بأنّ دوستوبيا من نوع جديد تدخل على خطّ العجائبيّ والنفسي، "أورويلية" من نوع آخَر، فهذا الدانيال المتعدد، يعمل في الأرشيف، في المدينة السفلية حيث البشر والمراقِبون، وهو واحد منهم، والمدينة العلوية حيث الناس يصبحون دمى ماريونيت، الأرشيف الذي يديره الرقم صفر، ويوثّق لكلّ ما يقوم به البشر/الدمى، من أيام الأوراق والكتابة وصولًا إلى زمن الفيسبوك والتغريد الإلكتروني. ولكنه يستطيع الانتقام من المتحرشين والمغتصبين من خلال الوصول إلى ملفاتهم، وابتزازهم ومن ثمّ قتلهم، ويستطيع الانتقام من المتعاونين معهم من موظّفي الأرشيف، ولكننا نتفاجأ بأنه انتقام ظلّ داخل صراعات دانيال مع دانيالاته الأخرى، في مدينة لا يمكن أن تنتقم فيها ممن اغتصبوا، جسديًّا أو فكريًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا ...، بلادًا بأكملها، وهنا تردّك الرواية إلى عملية القتل الأولى التي قام بها دانييل، فتكشف لنا بأنه لحظةَ عور الشارع قرر التراجع عن القتل والانتقام، ولكن الشاحنة كانت أسرع من قراره، فتبرّر للنصّ الإيهام بالقتل والانتقام الذي لم يحصل بالفعل، فدانييل ليس الطفل القاتل، لذا لن يصبح الشاب القاتل بطبيعة الحال.

قضايا أخرى تطرحها الرواية، ولكنها كانت ثانوية، كالأب الذي شوّه وجه ابنه ولم يستمع إليه وتبرّأ منه حتى مات، والمدارس الدينية وما يحصل داخلها من فساد أخلاقي وماليّ ودينيّ حتّى، بالإضافة إلى قضايا تُعنى بالسياسة حين يظهر مبارَك في مشهدين أو أكثر مع جملة شهيرة له، ولكنها لم تكن لتظهر لولا أنها تصبّ في قضية النصّ الأقوى والأعمق، دانيال ومدينة الخيوط، حيث يصبح الناس كالدمى.

ولماذا الدمى، ولماذا دانيال صاحب الشخصيات المختلفة، الطفل والشاب، المغتصَب والقاتل المنتقِم، ولماذا العمل في الأرشيف، وهل فعلًا عمِل هناك، كلها أسئلة لا يمكنك الاستغناء عنها، وفي الوقت نفسه لا يمكنك الإجابة عليها مهما حاولت، فهل هذه المدينة هي بلادنا ونحن الدمى التى تحرّكها الخيوط؟ بالطبع هذا هو المقصود، ولكن هل وجدتَ الإجابة، لا! فمن هو المحرِّك؟ من هو الرقم صفر في الأرشيف، ومن هم الجنود باللباس الأخضر؟

إنه نصّ ممتع، لغته سلسة وسهلة، ولشدّة صياغتها المحكَمة، تجعلك تعتاد القراءة والوَقف والتأثّر، من دون علامات وقف وترقيم، كما كان الأقدمون يقرأون العربية من دون النقاط. وهنا نعود للتساؤل، لماذا استغنى النصّ عنها، ومتى كان يعود إلى النقطة وحدها؟ فلا يجيبك النصّ من خلال دانيال أو غيره، ولكنك تستنتج، وقد تكون مخطئًا، بأن دانيال الذي كتبَ أرشيفه بنفسه، والذي أخبرنا في أكثر من موضع، بأنه لا يعرف تقدير الزمن والوقت، فهو لذلك لم يعرف متى ينهي الجُمَل والفِقرَ وبالتالي الفصول والنصوص كاملةً، أما النقطة، فقد استعملها دانيال الواعي، ولكنه كان قاطعًا في كلّ جملة قالها، فهو لا يمتلك رفاهية الوقت والاستطراد والوصف، فدانيال آخَر سأتي وعليه الانصياع له.

هذا النصّ يقول لنا إن في داخل كلّ منّا دانياله الآخَر الخاص، أو أكثر، وفي الخارج خيوط تحكمنا داخل "سيستم" لا نعرف له أصل ولا مصير... ولكن، على الرغم من ذلك، علينا أن نحاول دائمًا التفلّت من تلك الخيوط.

الأكثر قراءة

ماذا يجري في سجن رومية؟ تصفيات إسلاميّة ــ إسلاميّة أم أحداث فرديّة وصدف؟ معراب في دار الفتوى والبياضة في الديمان... شخصيّة لبنانيّة على خط واشنطن وطهران