اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تعرّفت الى المخرج بهيج حجيج مصادفةً عندما كان الروائي رشيد الضعيف يوقّع لي روايته الأخيرة في معرض لبنان الدوليّ للكتاب، وبتواضعِ الواثق سألني: "هل شاهدتَ الفيلم الذي أخرجتُه وكان من كتابة رشيد؟"، قلتُ لا، فأخبرني إنه على إحدى المنصّات وأنصحك بمشاهدته. فتّشنا معًا عنه ووضعته ضمن قائمة الأفلام التي أريد مشاهدتها.

"Good Morning" هو عنوان الفيلم، بالإنكليزية، لم أستغرب، فحتى ولو أنه كان "غود مورنينغ" بالحروف العربية لَما استغربتُ أيضًا، فأولى روايات رشيد الضعيف التي قرأتها عام 2009 كانت بعنوان "ليرنينغ إنغليش". لم أبحث عن الفيلم والمخرج ولا عن آراء حول الفيلم، ولكنني، ولحسن حظّي، قررت مشاهدته بعد أسبوع من لقائي بالمخرج والكاتب.

هي قصة رجلين متقاعدين من مؤسستين عسكريتين، برتبتين متفاوتتين، ولكنهما رتبتان عاليتان أحدهما جنرال والآخر دكتور، يعيشان أيامهما برتابة يلتزمان بأوقاتها وما يقومان به خلالها التزام الجنديّ بأوامر الضابط، يلتقيان يوميًّا في المقهى نفسه في بيروت، في الأوقات نفسها، ويعملان على حلّ الكلمات المتقاطعة في ما يتيسّر لهما من جرائد. يجلس في المقهى نفسه الى طاولة مجاورة شابّ صحفي يتدخّل أحيانًا بمعلومة يساند العجوزين بها إن هما عجزا عن حلّ سؤال أفقيًّا أو عموديًّا. ومعه تدخل النادلة في المقهى، والتي ستجمعها به مع الوقت قصة إعجاب وحبّ.

ولأنني لستُ مخوّلًا لإبداء الرأي حول الإخراج والموسيقا التصويرية وزاوية التصوير وحركة الممثلين، سأركّز على النصّ ورمزية ما ورد في بعض المشاهد. وهنا أبدأ مع شخصية الضابط المتقاعد والذي ما زال يتمتّع ببعض الرفاهية بمرافقة سائق خاصّ له، هذا العجوز الذي الذي يحبّ التطفّل على مرتادي المقهى لإخبارهم بـ "نكتة" سريعة، أراد الكاتب والمخرج إبراز عدة أوجه وطرح عدة قضايا، حيث لم يقبل الجميع تطفّله، وقد عومِل بطرق مختلفة من قبول وصدّ وعدم مبالاة، وهنا باستطاعة المشاهد أن يرى أباه أو جدّه أو جارًا له، ولكن الأهم والأعمق، أنه يرى نفسه فيه وكيف ستصبح الأمور عليه إن وصل بنا العمر إلى هذه السنّ.

لم تكن حياته الرتيبة وعدم رغبته بالعودة إلى البيت لتمرّ مرور الكرام لدى رشيد الضعيف، فالسؤال الأكبر هنا الذي يوجّهه لكلّ الأجيال: "هل حقًّا هذا هو الشخص الذي أريد أن أشيخ معه؟" فترى نفسك تنظر إلى شريكك وتغوص في التفاصيل ولكن من دون الجرأة على التفتيش عن الإجابة. وفي المقابل شخصية زميله الرصينة، المتابع لصديقه الناصح له مهما كانت النصيحة قاسية، والذي نكتشف أن زوجته تعاني من الألزهايمر، ويبقى يردد عبارة "ما عاد تنترك لحالها"، في إشارة إلى أنّه بحاجة إلى الابتعاد قليلًا والترفيه عن نفسه بطريقته الخاصة بجلوسه مع صديقه لحلّ الكلمات المتقاطعة، ولكن شعورًا بالذنب يرافقه طوال جلسته، لأنه يريد أن يكون معها، فتكون هذه العلاقة في مقابل تلك، وهذا الرجل الذي يعاني من ألم في رجله، ولكن مخاوفه مركّزة على حال زوجته، التي أراد أن يشيخ معها وأحبّها وأحبّته، ولكن جرت الرياح عكس سفينتهما، وتحكّم فيها ذلك المرض.

شخصيتا سليم وغنوة كانتا فقط لدعم المواقف التي سيمرّ فيها العجوزان، بوصفهما عجوزين، سيقبلهما المشاهد ويحبهما ويضحك مع الفكاهة المقصودة من قِبَل المخرج، إن من خلال الموقف أو من خلال الكلام، فيجعله يقارن قبوله لهذين الرجلين، وقبوله لمن هم في مثل سنهما من عائلته، فتجري محاكمة الذات بشكل لطيف ومقبول في أثناء المشاهدة، ويجد المشاهد نفسه يفكر في أن يعدّل من طريقة تعاطيه معهم إن هي لم تكن جيدة، وابتسامة حبيب الدائمة في تعاطيه مع الرجلين، ما هي إلا محاولة إخراجية لتوجيه المتلقّي للقيام بهذه المحاسبة للذات.

طروحات كثيرة "لبنانية" طرحها الفيلم، التنوّع الطائفي وكيف يقف في وجه حبيبين، الخارج من مدينته واستقراره في مكان آخر للسبب نفسه، الأوضاع الأمنية وتعامل الناس معها، حلم الهجرة والهروب، ويأتي "موقف السيارات" الذي نراه دائمًا في الخلفية، رمزًا موفَّقًا ليدل على موقف الناس وكيف تخفّ حركتهم مع اضطراب الحالة الأمنية. أما المبنى الذي بدأ الفيلم ببداية تهديمه، وهو مبنى تراثي بيروتي، وينتهي الفيلم مع الانتهاء من أعمال الهدم، قد يبدو لنا رمزًا لحياة الجنرال الذي يموت في النهاية، ولكن القصود كان أعمق برأيي، فبيروت/لبنان هي المقصودة وهي الأساس في خلفية كل ما جرى في الفيلم، وهذا المبنى ما هو سوى بيروت نفسها التي تفقد دورها وتاريخها يومًا بعد يوم ومبنى بعد مبنى. وهنا نذكر مسألة تدريب الذاكرة لدى العجوزين لتثبت أنهما يمثلان ذاكرة جميع اللبنانيين التي تحتاج منّا دائمًا إلى تدريب حتى لا يعيد التاريخ نفسه.

إنه فيلم لطيف وعميق، وفكاهيّ ورساليّ في آن معًا، لكاتب كبير يعرف الحبكة اللبنانية فاختار قطبة منها وركّز عليها، وجاء الإخراج ليجعل من القصة تصل بهذه البراعة والخِفَّة. أما بالنسبة إلى أداء الممثلين فحدّث ولا حرج عن لطافة عادل شاهين وطبيعيّته وحرفيّة غابرييل يمين.

الأكثر قراءة

ماذا يجري في سجن رومية؟ تصفيات إسلاميّة ــ إسلاميّة أم أحداث فرديّة وصدف؟ معراب في دار الفتوى والبياضة في الديمان... شخصيّة لبنانيّة على خط واشنطن وطهران